لكنها تتضاءل وتنحط نتاج عدم قدرتها على الثبات واستسهالها لبناء قواها مما ينحدر بها إلى الحضيض، وذلك بسبب توقف جهودها عن الإبداع، وانهيار نظم الإصلاح الروحية والمادية، وتقوقع الانفصام فيما بين أبنائها وازدرائهم لبعضهم وللآخرين، فإذا خسرت الأمة قوة إيمانها بالنهوض، وصفاءها الذي به ترى أين تكون، وحلت الخرافة محل العلم والحمية الجاهلية مكان المنطق والحسد والكراهية بدل العمل والحبّ، وصلت إلى حضيض الأمم، وتحولت إلى ذاكرة تستعرض المكان والزمان.
تقهقر الأمة لا يكون بسبب فقدان القوى المادية أو السيادة السياسية، بل نتاج فقدان لقوة الإيمان التي تتناهبها الظروف، أو أنها أفقدتها جذوة الصمود، فالشعوب التي تصمد في عالم مضطرب تجد لها وطناً فيه، ولا وطن من دون صمود.
قد يعترض البعض على كلمة صمود، لكن جوهرها عظيم، فالصمود يؤسس للبقاء والنجاح والتقدم والخلود والكبرياء والفداء، ومن دونه تبعية وخضوع وانتهاء، كما أن الإبقاء على الشعور بالتفوق الذي تشعله في أفرادها ذكرياتُ الأعمال المجيدة، التي قام بها الأسلاف، يعتبر من أخطر الأمور، لأنه يؤدي إلى تقاعسٍ في بذل الجهود من أجل التقدم، والشعوب التي تأتي بجلائل الأعمال، لا تتشدق بالفخر بها، لأن وقتها يضيق عن ذلك، ولأنها تكون ماضية إلى تحقيق غاياتها، لا إلى الماضي، ولا إلى استجداء آراء الآخرين، بل همها الواقعي من أجل أهدافها التي تبني لها السبل للوصول إليها.
الأمم لا تموت، لأن ذاكرة المكان تبقي لها أثراً، لكنها تنحطّ، وأشد أسباب انحطاطها انتشار الخرافة، وقبولها للفتن، ومزج العلم بالخرافة التي يتقبلها الجهلة، مع ارتكازهم على السحر وقراءة الفنجان والكف والعرافين، يؤدي كل ذلك لانفراط عقدها، ومع هذا كله يعلو كعب سلطات الكهانة التي تزدهر أعمالهم من خلالها، ما يدلنا على فقدان القيم والمبادئ رغم المناداة بها، ليكون أهم سبب للتأخر هو انتشار الكهنوت، ولا علاقة للسياسة به، لأن الانحدار الديني المستمر إلى الوراء، إن لم يوقف ويؤخذ به ليواكب الركب في حركة التطور يسهم بشكل فعال في انتشار الهزائم العسكرية وحلول الكوارث الاقتصادية، ويضعف القوى السياسية، ويحولها إلى مرتهنة أو مستفيدة بشكل أو بآخر من تبعات التدهور.
الملق يضر أكثر مما ينفع، وما أكثره في أمتنا، وإني لأعتبر أن أهم معضلة تحياها مجتمعاتنا هي مشكلة رفع المستوى الإيماني بضرورة النجاح لمجموع الناس، ولذلك أجد أن أسباب انحطاط أي شعب أو أمة هي أسباب داخلية صرفة، مهما زعمنا أن للخارج يداً فيها، لأن عدم التحصين يؤدي دائماً للاختراق، فإذا شهدنا شجرة شامخة المظهر، تسقط بفعل عاصفة، فيجب ألا نلوم العاصفة على إسقاطها للشجرة، بقدر ما يجب أن نلوم الشجرة نفسها على تعفن باطنها، فالأمم عندما تتهاون في بناء قواعدها وأسسها تنهار أبنيتها عليها، وهنا أشير أيضاً إلى أن تقدم الأمم لا يقاس بمقدار ما فيها من رفاهية أو مادة، لأن التقدم المادي فقط مدمر، ولا يشير إلى الازدهار، بل إلى التأخر في كثير من الأحيان، فالتقدم يبنى على العلم ومخرجاته، والأخلاق وثقافتها، والفنون وإبداعاتها، والقانون وخضوع الجميع لبنوده. هذا ما فعله الكثير من الأمم في أثناء نهوضها، لتبقى أمتنا في أتون التخلف، رغم ما لها من ظروف لتتقدم.
لقد فكك كثيرٌ من الأمم أسرار المعرفة، وأهمها اعتمادها العلوم التجريبية، وفي غضون عقود من الزمن أحدثت ثورات انتقلت بموجبها من العلوم الروحية إلى العلوم المادية، ولذلك نجدها تقدمت وأحدثت فارقاً هائلاً بينها وبين أمتنا التي لن تنهض إلا بامتلاكها لنواصي المعرفة على أسس صحيحة، وإنّ جذور أي ثقافة ما لم تكن عميقة عمقاً كافياً، لا تلبث أن تذوي وتنتهي، واكتساب المعارف والعلوم لا يبدأ من حيث انتهت إليه، أو بالاستعارة أو النقل أو الاعتراض والنقد؛ بل بالبناء من الأسس والقواعد والمبادئ الأولى، وإنه من السهل جني الثمار، لكن أن تستنبت الأشجار الصحيحة وترعاها وحدها، حينها تعطيك ما تريد من النتائج الوافرة، ورغم أن المهمة شاقة، إلا أن النتائج مضمونة.
الأمم لا تموت بفضل قادتها وساستها وحكمائها وعلمائها وكهنوتها المتطوّر والمطوّر، الذين يجمعون أبناءها على جغرافيتها، ويوفرون لها البنية المتينة لنجاح حضورها ومقاصدها، ورغم أن هذا العمل يبدو كأصعب ما يمكن، لكنه ينجح عند إعطائه الروح المعنوية العالية، وأقصد تقريب البعيد بالتحضير والاستعداد والاستفادة من القريب، وتحويل الكل إلى العمل المجدي والمفيد.