ثقافة وفن

النور الطبيعي وحده يضيء كل الأشياء المرسومة … ميشيل كرشة والحضور الدائم فنياً وإعلامياً … اعتماد الألوان المشرقة الزاهية والدرجات المتتابعة

| سعد القاسم

أشير في حلقة سابقة إلى أن رائد الفن التشكيلي السوري توفيق طارق بقي معظم حياته منحازاً بشدة إلى الأسلوب الواقعي– الكلاسيكي، وأنه كان لماحاً وعصبي المزاج وشديد الاعتداد بنفسه، فكان رد فعله حاداً للغاية حين منحت لجنة تحكيم معرض 1926 الجائزة للفنان الانطباعي ميشيل كرشه. ويقال إنه غادر دمشق إلى بيروت، إلى أن توفي فيها بعدما أصابه مرض عضال، ثم نقل جثمانه إلى دمشق ليدفن بمقبرة (باب الصغير).

الإشكالات والبدايات

يتداول بعض الفنانين المتقدمين في العمر أن توفيق طارق قام بعد أن منحت لجنة التحكيم جائزة المعرض إلى ميشيل كرشة برسم أحشاء خاروف بواقعية مفرطة، وعلق اللوحة في منطقة جسر فيكتوريا وسط العاصمة وكتب تحتها (كرشة)، وهي كلمة يطلقها الدمشقيون على بعضٍ من أكلة شعبية سورية شهيرة تُصنع من أحشاء الخراف المحشوة بالرز واللحم المفروم. وعلى ما وصلنا فإن ميشيل كرشة المعروف بلطفه ومسالمته تجاهل هذا الاستفزاز، بخلاف كثير من طلابه ومحبيه الذين ساءهم هذا التصرف واتخذوا موقفاً من توفيق طارق امتد لسنوات طويلة بعد رحيل الفنانين الرائدين، وقد ظهرت آثار هذا الموقف في بعض الكتابات التي أرخت لمرحلة البدايات.

التوثيق جمعهما

التقى توفيق طارق وميشيل كرشة (قسراً) بعد أكثر من ستين سنة من خلال مشروع توثيقي بالغ الأهمية والطموح أطلقه التشكيليان حسان أبو عياش ومحمد حسام الدين صيف عام 1988 تحت عنوان (فنانون تشكيليون سوريون)، وقد قام هذا المشروع على إصدار كتيبات صغيرة وملونة وذات طباعة ومظهر أنيقين، يتناول كل منها بعض الفنانين التشكيليين السوريين الرواد. وكتب نص الكتيب الأول الناقد طارق الشريف وكان عن توفيق طارق وميشيل كرشة. وبلغت الأهمية التوثيقية لهذا المشروع أن خطأ مطبعياً ضم صورة لوحة (رأس العين) لميشيل كرشة إلى مجموعة صور لوحات توفيق طارق، قد بنيت عليه كتابات نقدية عن التحول في أسلوب توفيق طارق نحو الانطباعية، وهو خطأ شاع طويلاً ووقع فيه كثير ممن يكتبون في الفن التشكيلي، وأنا منهم، قبل أن يتم تصويبه من خلال صفحة (تكون الفن التشكيلي الحديث في سورية) على الفيسبوك.

يُعتبر ميشيل كرشة رائد الاتجاه الانطباعي في الفن التشكيلي السوري، وقد تلازم اسمه مع لوحات مشاهد الطبيعة. سافر إلى فرنسا لدراسة الهندسة لكن ميله العارم نحو الفن جعله يبدل وجهة دراسته بما لا يتناسب مع رغبات أهله. ‏ وعاد منها عام 1925، بعد أن أمضى خمس سنوات تلميذاً على يد أستاذه لوسيان سيمون Lucien Simon في معهد الفنون الجميلة. درّس التصوير الزيتي وفن الحفر بأنواعه، وتأثر بالانطباعية الفرنسية. عمل مدرساً في ثانويات دمشق، وشارك بمجموعة أنشطة وفعاليات قامت بها تجمعات فنية في سورية، وأسهم عام 1950 بتأسيس جمعية محبي الفنون الجميلة مع عدد من الفنانين، ثم في الجمعية السورية للفنون مع خالد معاذ ونصير شورى وعبد العزيز نشواتي. كان ثمة تنافس إبداعي بينه وبين سعيد تحسين وعبد الوهاب أبو السعود، بعرض لوحاتهم في واجهة (المكتبة العمومية) في دمشق مقابل سينما (الأهرام)، فكانت المكتبة تعرض لوحة لواحد من هؤلاء في كل أسبوع، إلى أن صار ذلك تقليداً ساعد على انتشار سمعة الفنانين الثلاثة، حيث كان هواة الفن ومحبو الفنون الجميلة ينتظرون يوم السبت ليشاهدوا اللوحة الجديدة التي تعرضها المكتبة في ذلك الأسبوع. ترجم أسلوب ميشيل كرشة تأثيرات دراسته في فرنسا، فكان يرسم باللون مباشرة من دون أن يعتمد على الخطوط. ثم تجاوز ذلك إلى لونه الخاص باعتماد الألوان المشرقة الزاهية، والدرجات اللونية المتتابعة، بعيداً عن التضاد الحاد بين الداكن والفاتح، أو بين الألوان الباردة والألوان الحارة. وقد اهتم كثيراً بمسألة تأثير ضوء الشمس في تغيير درجة اللون، وكانت لمساته اللونية سريعة وذات إيقاع كإيقاع ضوء الشمس الباهر.

الإعلام والنقد

قد تكون مقالة نشرها الدكتور سليم عادل عبد الحق في مجلة (الإذاعة السورية) عام 1954، من أدق وأشمل ما كتب عن الفنان وتجربته، ذلك أنها عرضت تلك التجربة بعمق نقدي ومعرفي طالما تميزت به مقالات ودراسات وبحوث الدكتور عبد الحق، كما أنها عرضتها ضمن الإطار التاريخي الفني، الذي كان يموج بالعديد من الاتجاهات الفنية المتنوعة والمتباينة، كاشفاً عن خصوصيتها وأسباب تميزها، وفي الوقت ذاته عن سعة معرفة الكاتب، ورهافة رؤيته الفنية، ودقة مفرداته النقدية التي تستخدم التوصيفات الموسيقية في نص عن الفن التشكيلي. ‏ وربما يعطي المقطع التالي المقتطف من المقالة فكرة عما سبق، إذ يقول الدكتور عبد الحق: «وتعبر الألوان برأيه (رأي ميشيل كرشة) خير تعبير عن النور كما تعبر عن عواطف الفنان الفرحة أو الحزينة، وبإمكان هذه الألوان ومشتقاتها السبعة أن توجد كل التأثير في لوحة من اللوحات كنوطات التناغم الذي يسجم الألحان ويخلق الطرب. وفناننا لا يفضل لوناً على لون بل يحب جميع الموسيقا التي يمكن بواسطة اجتماعها خلق الألوان ما عدا اللون الأسود الذي لا يمكن أن يسمح له بالظهور في أي لوحة من لوحاته، ويعترف أنه يفسح مجالاً واسعاً في هذه اللوحات للون الأصفر المائل إلى الاحمرار لأنه لون النور الطبيعي الذي يجب أن يضيء كل الأشياء المرسومة». ‏

شارك ميشيل كرشة في المعارض التي كانت تقيمها الدولة، وأقام عدة معارض فردية لأعماله منذ عام 1954، وكان دائم الحضور في الندوات الفنية التي تلي المعارض. وفي مجال التعليم، كان معلماً ناجحاً في تعليم الطلاب وتدريبهم على استخدام الألوان وأدوات الرسم، وتلقينهم أصول التصوير، وكان يحرص على الخروج مع طلابه إلى حديقة المدرسة، ويدعوهم لتأمل الطبيعة وتصويرها مباشرة بالألوان من دون الاستعانة بالتخطيط المسبق للوحة، وهذا ما أكسب طلابه الثقة بالنفس والجرأة في معالجة المواضيع. وأحدهم الفنان المعلم الياس زيات. نال كرشة جائزة تصميم الطوابع الدولية عام 1933 من الولايات المتحدة، كما نال في العام ذاته وسام الاستحقاق السوري لتفوقه في معرض فلوريدا الدولي. وتوفي في نيويورك عام 1973 بعد أن حجز في صالة متحف (الميتروبوليتان) لإقامة معرضه فيها، وألغي المعرض بسبب رحيله، وبقيت لوحاته هناك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن