من دفتر الوطن

المفكر الحر جورج طرابيشي

| حسن م. يوسف

في برنامجها (تحيا الحياة) الذي أذيع بين الخامسة والسادسة من مساء الخميس الماضي على «هواء المدينة إف إم سألتني» الزميلة الإعلامية غالية طباع عمَّن هم موضع اهتمامي من المفكرين العرب، فوضعني سؤالها وجهاً لوجه أمام تقصيري تجاه المفكر والمترجم الكبير جورج طرابيشي، الذي يصفه المنصفون بأنه «أحد أهم رجال الفكر والتنوير في الثقافة العربية». والحقيقة أنني نويت الكتابة عن هذا الرجل الفذ منذ أن سمعت نبأ رحيله في مثل هذه الأيام قبل ستة أعوام. إلا أنني تهيبت القيام بذلك لأنني لم أقرأ سوى جزء يسير من نتاجه الفكري الضخم وترجماته التي زادت على مئتين وخمسة وعشرين كتاباً. وقد تكرر الأمر بشكل مؤسف في الأعوام التالية. لذا تعهدت للزميلة غالية، على الهواء، أن أول مقال قادم سيكون عن جورج طرابيشي. ومع أن الحرج لا يزال قائماً لأنني ما أزال على شاطئ محيط الأفكار والجماليات التي يمثلها الكبير جورج طرابيشي إلا أنني أجد نفسي ملزماً بوعدي.

ولد المفكر السوري جورج طرابيشي في مدينة حلب وتخرج في جامعة دمشق، قسم الأدب العربي، وعقب تخرجه عمل في إذاعة دمشق، وأصبح مديراً لها عام 1963، بعدها غادرنا إلى بيروت حيث عمل لعقد من الزمن كرئيس تحرير لـمجلة (دراسات عربية)، ثم انتقل إلى مجلة (الوحدة) حيث عمل لخمس سنوات محرراً رئيسياً لها. وتحت وطأة الحرب الأهلية اللبنانية، انتقل جورج طرابيشي إلى باريس حيث تفرغ للكتابة حتى يومه الأخير في السادس عشر من آذار 2016 حيث غادر عالمنا المضطرب وقد بلغ من العمر سبعة وسبعين عاماً.

في مطلع حياته ركز طرابيشي على ترجمة الفلسفة، فقدم للمكتبة العربية أهم أعمال هيغل، وفرويد، وجان بول سارتر، وسيمون دي بوفوار، وترجم العديد من الأعمال الأدبية وعلى رأسها رواية زوربا لليوناني كازانتزاكيس. كما وضع معجماً للفلاسفة، وألف العديد من الكتب الفلسفية قد يكون أهمها كتابه الأخير: «المعجزة أم سُبات العقل في الإسلام».

لم ينكر جورج طرابيشي يوماً أنه تأثر كثيراً بكتاب الجابري «تكوين العقل العربي» عندما قرأه لأول مرة، إلا أن الحال لم يبق على حاله، لأن طرابيشي اكتشف في سياق دراساته التاريخية وأبحاثه الفكرية، أن الجابري اعتمد في بعض كتبه على شواهد «مغلوطة ومقطوعة من سياقها ومفسرة من غير سياقها». لهذا خصص ربع القرن الأخير من حياته لنقد المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري وخاصة كتابه «تكوين العقل العربي».

عاش جورج طرابيشي في باريس حياة أقرب إلى الزهد في شقة متواضعة. كان يكتب مقالاً أسبوعياً في إحدى الصحف، لكنه توقف عن ذلك منذ سنوات عندما اكتشف أن ريع كتبه يكفي لسد حاجاته الضرورية.

في واحد من آخر الحوارات التي أجريت معه قال جورج طرابيشي: «نحن المثقفين العرب نؤوي بين ظهرانينا عدداً غير قليل من العصابيين والذهانيين»… وألقى باللائمة على كثير من المثقفين العرب: «هناك شريحة واسعة من «الانتلجنسيا» العربية تخون رسالتها التي تكمن في معرفة الواقع ونقد الواقع».. ويعرب عن ألمه الشديد لأن «كثيراً من المثقفين العرب المحسوبين على الماركسية والديمقراطية والعلمانية تحولت ردود فعلهم إلى ردود فعل طائفية… وبكل صراحة هذا أكثر ما آلمني».

تحية لروح المفكر السوري الحر الكبير جورج طرابيشي في الذكرى السادسة لرحيله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن