ثقافة وفن

جائزة الحياة!

| إسماعيل مروة

في كثير من مفاصل حياتنا نشعر بالتعب والإرهاق، نحسّ الدنيا تطبق علينا ضيقاً ومؤونة، يكاد الواحد منا يختنق أمام التزامات لا فكاك منها، أمام أسرة ومتطلباتها ،وحياة وتكاليفها، وطرق وسبل سلوكها، ونرقب الغد القادم إلينا! نضيق ذرعاً، وربما اختلى الواحد بنفسه ليذرف دمعات، أو ليصدر الآه التي تصل عنان السماء دون أن يسمعه أحد، خاصة ممن يتحمل مسؤولياتهم، أو يظن أنه يتحمل المسؤولية، ولكن إشراقة اليوم التالي تبدأ، وتستمر الحياة، وكأن الحياة كانت جائزة لهذا الإنسان! ويسمع العبارات التسليمية، على الله، الله بيفرجها، والله يتكفل، وعبارات أخرى، هو يدرك أنها عبارات تصبيرية تجميلية، لم يكن لها أي فائدة ترتجى لولا عمل متواصل يقوم به المرء، ولولا قدرة على التحمل في الانتقال من عمل إلى آخر حتى يستطيع أن يكمل مشواره بأقل الخسائر في ذاته وفيمن حوله! ويأتيه من يقول: أرأيت: الله فرجها.. نعم الله فرّجها، ولكن كيف كان ذلك؟

ألم ينظر في المرآة ليدرك أن هذه السنوات التي تجاوزت العشر دفعته إلى شيخوخة تساوي أكثر من نصف قرن؟!

ألم يلمح واحدنا أن العامين الأخيرين يعادلان أعماراً من حيث التعب والسعي الذي لا يتوقف عنه الإنسان؟ ألم يلاحظ واحدنا أنه خلال هذه السنوات لم يستطع أن يمضي وقتاً سعيداً مهما كان هذا الوقت قصيراً، وذلك في غمرة بحثه عن متطلبات لم تكن تأخذ من تفكيره أي شيء في زمن سابق!؟

هل الحياة جائزة حقاً أم إنها عقوبة لمن بقي حياً؟

كلما تذكرنا قريباً أو صديقاً رحل عن الدنيا نقول: ارتاح من عناء الحياة، لم يكن مريضاً، لم يكن شيخاً هرماً، لم يكن بأي حالة صعبة، ولكنه رحل! لذلك نرى أنه ارتاح من الحياة ومتطلباتها، وصار طبيعياً أن تقف لتسمع أحدهم فيقول لك: لم يبق من أسرتي غيري وغير عدد قليل، وهو يبتسم لأنه بقي على قيد الحياة! وتسمع من سيدة قولها بأن كل أسرتها ماتت تباعاً، وبقيت هي مع أولادها، وتمضي سحابة يومها تعمل، وكل ليلها تفكر في تدبر أمور الحياة، ولكنها، والحمد لله، ما تزال على قيد الحياة! ثم لا تلبث أن تطلق ساقيها للعمل، وربما بدأت تدندن أغنيات من نفسها أو أغنيات طلبها واحد من الميسورين ليستمتع بالصوت والشكل، وهي تتلوى ألماً بأنها صارت وجبة سمعية وذوقية، لكنها ما تزال على قيد الحياة! فألف شكر لله على أن فرّجها عنها وأبقاها لأولادها تعمل ما هم بحاجة إليه!!

يتوكأ واحدنا على كيس أو أكياس من الدواء والحبوب والإبر، يعجز عن شرائها، وقد يساعده أحدهم في تأمين الدواء، ويرقب هذا الدواء راجياً أن تطول أوقاته، وألا ينتهي هذا الدواء بسرعة، حتى لا يحتاج إلى سؤال أحد لتأمينه في مرحلة لاحقة! وربما اكتفى بالدعاء ألا يترتب على مرضه أن يحتاج إلى عملية جراحية مهما كانت صغيرة، لأن ذلك فوق طاقته، بل إن أحدهم يطلب من أسرته إذا توقف نبضه ألا يركضوا به إلى المشفى، وأن يتأكدوا من رحيله في البيت، لأنه إذا دخل المشفى جثة، فلن تخرج جثته إلا إذا دفع مبلغاً يضطر فيه الورثة إلى بيع كل شيء لاستخلاص جسده!!

ويرقب واحدنا المتنفذين والمسؤولين ليجدهم غير عابئين بأي شيء مما يعانيه الإنسان، وحتى عبارة التعاطف صارت صعبة على ألسنتهم، فالمهم أن يصبر المواطن، وأن يكون مع حكومته! لكن أن تكون حكومته معه، فهذا شيء آخر من الترف ونكران الجميل، والتنكر للحياة وبأنه ما يزال حياً وعلى قيد الهموم!! كلما قابلت واحداً من هؤلاء الفضلاء في جلسة، أو تحاورت معه بأي وسيلة أجد الرضا التام منه، بل ألمس أحياناً عدوانية الكثيرين منهم! فالحرب الطويلة لم تعلمنا أن نجيد الحب، بل عملتنا الرغبة بالتمسك بكل شيء، وأن نعادي الإنسان وحقه في الحياة والتعلم والعمل!

مهما كان الشخص عندهم، إن لم يكن تابعاً لذاك، فإنه سيئ وغير قابل للحياة!! أرأيتم مثل هذا الفكر الجهنمي الذي زاد في جهنميته على حرب السنوات الماضية؟!

هزلت الحياة حتى لم تعد مطمعاً لأي رجل عاقل، ولأي امرأة عاقلة، حتى لا يقال: انحاز للرجل، وصارت رهينة فلسفة اللحظة الجميلة فقط، وبعدها ليحدث ما يحدث! هزل كل شيء إلا عند المتخمين القابعين للتنظير والفلسفة على الناس في أدنى حقوقهم، وسيبقى هؤلاء ينظرون ويحللون حتى ينتهي دورهم ومفعولهم، وستجدهم يتلطون على الأبواب يرجون أن ينظر إليهم أحدهم بعين ما! وسنجد حتماً من يشفق عليهم لأنهم عزيز قوم ذل، فأي قوم وأي عزيز؟!

جائزة الحياة.. حتى هذه صارت تتم بترتيب مسبق بين قادر وغير قادر، فتمنح لأحدهم وتمنع عن أحدهم، وكأننا في مزاد رديء، هذا أحبه وهذا لا أحبه! هذا ينسجم معي وهذا لا ! هذا ينصاع وهذا لا! ويستمر الهزال والمستفيدون في كل ميدان يمتصون ضرع البقرة حتى آخر قطرة، ولو لم يكن بحاجة الحليب، يدلقه في أقرب مصرف للصرف الصحي، ولكنه لا يسمح لأحد أن يقترب منه أو يناله، تارة باسم الوطنية، وأخرى الانتماء، وأخرى وأخرى.. وربما تصل إلى أن هذا الجائع لا يشكر الله أنه تمتع بالجائزة وهو على قيد الحياة..!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن