لا يزال العالم يترقب تبعات وتداعيات الحرب الأوكرانية التي تَعدت «مناطق النزاع»، وألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي، ويعتبر العالم العربي الأقرب لتداعياتها الاقتصادية، حيث تعتمد كثير من الدول العربية على القمح الروسي والأوكراني، وعلى النفط والصناعات الروسية.
المنطقة العربية ليست كياناً اقتصادياً واحدا، لذلك فإن التداعيات الاقتصادية للحرب الأوكرانية سوف تختلف من دولة إلى أخرى، حسب المعطيات التي أسفرت عنها الحرب، فروسيا أحد كبار مصدّري النفط والغاز في العالم، إلى جانب أوكرانيا، وهما مورد رئيس للحبوب إلى العالم، ويمثل البلدان ما يقل قليلاً عن ثلث صادرات القمح العالمية.
إن حجم التبادل التجاري للدول العربية مع روسيا في الفترة من 2019 إلى 2021 يراوح بين 18 و21 مليار دولار، ولكن ثمة علاقات أخرى تشمل الاستثمار بين الطرفين.
أما أوكرانيا فمن أهم الدول المصدرة للمنتجات الزراعية في العالم، وتلقب بـ«سلة خبز أوروبا»، ولأوكرانيا تبادل تجاري مع 18 دولة عربية بلغت قيمته نحو 6.3 مليارات دولار في عام 2020، وتشكل الواردات من أوكرانيا ما نسبته 92 في المئة من هذا التبادل، في حين لا تزيد الصادرات العربية لأوكرانيا على 450 مليون دولار، حديد التسليح تستورده الدول العربية من روسيا وأوكرانيا، بنسب متفاوتة بين دولة وأخرى.
مصر هي الدولة الأولى المستوردة للقمح في العالم، ومن أكبر الدول العربية المتضررة من الأزمة الأوكرانية وتستورد نحو 15 في المئة من احتياجها من القمح الأوكراني، و55 في المئة من روسيا، أي 70 في المئة من طرفي الحرب، ما قد يعرض أمنها الغذائي للخطر في حال استمرت الحرب ألأوكرانية.
مصر تستورد 34 في المئة من احتياجها من الذرة من أوكرانيا بقيمة تزيد على 500 مليون دولار سنوياً.
على صعيد النفط عام 2020-2021 حقق الميزان التجاري النفطي عجزاً بنحو 100 مليون دولار، وإذا ما استمر ارتفاع أسعار النفط سيرتفع العجز مع ما يرافق ذلك من ضغط على النقد الأجنبي وستبحث مصر عن مصادر بديلة.
كما ستتراجع أعداد السائحين من هاتين الدولتين وتتراجع إيرادات مصر السياحية وتقوم مصر وبعض الدول العربية، بتصدير الفواكه والموالح والخضراوات إلى روسيا وأوكرانيا وفي بعض دول شمال إفريقيا العربية، تتزامن الزيادات في الأسعار وانقطاع الإمدادات مع موجات الجفاف الشديدة، في وقت صعب تواجه فيه هذه الدول ركوداً اقتصادياً متزايداً.
نقص القمح سوف يصيب الدول الهشة في المنطقة العربية، فقد قوضت الأزمة الاقتصادية في لبنان بالفعل قدرة سكانه على شراء المواد الغذائية.
ويستورد لبنان القمح حيث يأتي 60 في المئة منه من أوكرانيا.
كما أن ليبيا واليمن معرضتان بشكل مماثل لنقص القمح وستستفيد الدول العربية المصدرة للنفط والغاز من ارتفاع أسعارها، وبالتالي ستحقق ميزانيات هذه الدول فائضاً مالياً من عوائد النفط الجزائر والعراق أفضل حالا، فهما دولتان نفطيتان، ويمكنهما البحث عن بديل لاستيراد احتياجاتهما من القمح، أو الحديد، وإن كان البديل أكثر تكلفة بالمقابل، الدول النفطية العربية المستفيدة من ارتفاع أسعار النفط سوف تكتوي بارتفاع معدلات التضخم المستورد، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة وبالتالي ستدفع هذه الدول جزءا كبيراً مما حصلت عليه من ارتفاع أسعار النفط، ثمناً للسلع والخدمات المستوردة، وموقف الدول العربية غير النفطية سيكون صعباً، بسبب استيراد جزء كبير من احتياجاتها، وتحملها أعباء التضخم المستورد، وبالتالي زيادة أعباء المعيشة على مواطنيها وسيزداد عجز ميزانياتها ويرتفع الدين العام لديها.
من جانب آخر يرى مراقبون أن خيار تحويل الغاز القطري إلى دول الاتحاد الأوروبي سيحتاج إلى مزيد من الوقت، كما أن قدرات قطر في ظل التزاماتها تجاه الدول المستوردة للغاز في آسيا وإفريقيا، ستظل محدودة جزئياً.
وتتطلع أميركا وأوروبا إلى السعودية والعراق والكويت والإمارات للمساهمة في تقليل اعتماد الأوروبيين على النفط الروسي، إلا أن دولاً عربية مثل سورية والسعودية والإمارات والعراق والجزائر وغيرها، ستتمسك بمتطلباتها وحاجتها للصناعات العسكرية الروسية، والشراكة مع روسيا في ما يتعلق بالحفاظ على أسعار النفط، هناك استثمارات زراعية سعودية في أوكرانيا، خاصة القمح.
تأتي المملكة العربية السعودية في مقدمة الدول المستوردة للدواجن الأوكرانية بنسبة 18.4 بالمئة، ودول الخليج ترتبط بعلاقات جيدة مع موسكو، خاصة العلاقات الاقتصادية بعد تشكيل تحالف «أوبك+» والذي يجمع بين روسيا ومنظمة «الأوبك».
العالم أمام سيناريوهين لمستقبل الحرب: الأول إنهاء الحرب في وقت قصير، بانتصار روسيا، وبقاء الطفرات الموجودة في سعر النفط في السوق الدولية، وتعثر الحصول مؤقتا على احتياجات الدول العربية من روسيا أو أوكرانيا.
والسيناريو الثاني أن تطول الحرب، ومن ثم سنكون أمام ارتفاعات أكبر في تكاليف التعامل الخارجي على مستوى العالم بوجه عام، ومع روسيا وأوكرانيا بوجه خاص، ومن ثم يتوقع أن تزداد حسابات الربح والخسارة للدول العربية، ومعظم الدول العربية ستجد نفسها مضطرة إلى الموازنة بين علاقاتها مع الدول الغربية من جهة، وعلاقاتها مع روسيا التي تربطها مصالح عديدة معها من جهة أخرى، وهي تحاول عدم اتخاذ مواقف سياسية حادة من الأزمة الأوكرانية في مسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع الدولتين خاصة وأن دول الخليج ودولاً عربية أخرى، ترى أن روسيا حليف مهم في إنتاج الطاقة، ومصدر محتمل للأسلحة والاستثمار والسلع الأخرى، حيث عبَّرت تلك الدول عن قلقها، وتجنبت إلقاء اللوم على روسيا مباشرة.
تبقى العلاقات بين الجماهير العربية وروسيا دافئة وما الحضور الروسي في سورية إلا دليل على عمق الصداقة بين الشعبين والبلدين وتأكيد على حقهما في الدفاع عن الأمن القومي الخاص بهما والتصدي للهيمنة العدوانية الغربية.