قضايا وآراء

داعش مستثمراً في ما بين الشقوق

| عبد المنعم علي عيسى

عشية الذكرى الثالثة لهزيمة «تنظيم الدولة الإسلامية» في الباغوز آذار 2019، كانت هناك الكثير من المعطيات التي تغيرت، والمؤكد أن هجوم التنظيم على «سجن الصناعة» بحي غويران 20 كانون الثاني الماضي، كان نذيرا تتراكم عنده الكثير مما تشي به تلك المتغيرات التي راحت تنضح بطبيعتها، وإلى أين يمكن أن تقود؟

كشف هجوم التنظيم آنف الذكر عن مجموعة من الوقائع التي لم تكن كلها جديدة، لكن الفعل كان قد فرضها كحقائق لا تعتورها الشكوك، ولربما كان أبرز تلك المعطيات هو أن «قسد» مخترقة بدرجة كبيرة من قبل التنظيم، وما تشير إليه وقائع الهجوم هو أن الأخير، الذي قالت عنه صحيفة «النبأ» الناطقة باسم التنظيم، إنه حصل بمجموعة لا يتعدى قوامها الـ12 مقاتلاً، وأنه ما كان ليحدث، ويتخذ المسارات التي اتخذها، لولا وجود مقاتلين داخل «قسد» مزدوجي الانتماء، بمعنى أنهم «داعشيي» الانتماء الحقيقي لكنهم انخرطوا في بنيان «قسد» بدوافع تتراوح بين تخطيط مسبق وبين محاولات البعض التستر بعباءة «قوة الأمر الواقع» هروباً من الانتقام، ومنها، أي من تلك المعطيات، أن الهجوم كشف عن تغير في الأساليب التي يعتمدها التنظيم في تنفيذ عملياته، فهذا الأخير بعيد إفلات الجغرافيا من بين يديه، والذي اختار علاجا له عبر استخدامه لتكتيك «الذئاب المنفردة» الذي يقوم على تنفيذ العمليات بخلايا صغيرة لا يتعدى قوامها الأفراد الثلاثة لسهولة الهروب أولاً، ولكي تصعب عملية تعقب المنفذين بالطيران ثانيا، هذا التكتيك جرى تعديله، عبر الهجوم على «سجن غويران»، وتعمق عبر الهجوم الحاصل على حافلة للجيش السوري قرب قرية الصواب عند محطة T2 في عمق البادية السورية شرقي حمص ظهيرة 6 آذار الجاري، والذي ذكرت صحيفة «النبأ» أن المجموعة التي نفذته تتكون من 12 من مقاتلي التنظيم باستخدام سيارة ودراجات نارية، والفعل من حيث كثافة الهجوم، وطبيعة التكتيك، ربما يوحي بأن التنظيم يسعى راهناً إلى السيطرة على بلدات أو مدن من جديد بعد أن تخلى عن تلك الإستراتيجية منذ نحو ثلاث سنوات، وما يدعم هذا الاستنتاج الأخير هو تزايد العمليات التي يقوم بها التنظيم في غضون الأشهر الثلاثة الماضية والتي كان أعنفها، بعد هجوم 6 آذار، هو ذلك الذي حصل يوم 3 كانون الثاني الماضي عندما تعرضت حافلة نقل عسكرية للجيش السوري لهجوم صاروخي إبان مرورها شرق المحطة الثالثة في البادية السورية.
ما يلاحظ على الهجمات السابقة، ويكاد يكون عاملاً مشتركاً جامعاً بينها، هو أنها باتت أكثر تنسيقاً، وأكثر كثافة من حيث حجم النيران المستخدمة فيها، وهذا يشير إلى معطيين اثنين، أولهما أن هذي المجموعات، التي بات قوامها الأساسي يعتمد على دماء جديدة، بمعنى أنها لم تكن منخرطة بالعمل العسكري المترافق مع سلسلة الهزائم التي مني بها التنظيم، تمتلك «روحية» جديدة واندفاعا أكبر، كما تتمتع بقدر أكبر من التدريب الذي يمكن تفسيره بالتأكيد عبر التقارير التي تشير إلى أن جل الهجمات الأخيرة كانت تنطلق من محيط «قاعدة التنف» التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الأميركي التي تقوم بتجميع هؤلاء وتدريبهم بما يتماشى مع طبيعة المهمات التي سينفذونها، وثانيهما أن تلك العمليات تأتي في سياق ممنهج ومدروس من النوع الخادم للمصالح الأميركية التي تريد التخفيف من الضغوط التي يواجهها وجودها العسكري على الأراضي السورية، وخادم أيضاً لـ«قسد» التي تعمل على جعل البادية السورية منطقة عزل عسكري بينها وبين قوات الجيش السوري تحصيناً لكيانها كما تعتقد.
في خلفية الصورة يمكن القول إن الحراك «الداعشي» المتنامي منذ مطلع هذا العام يستمد زخمه من عاملين اثنين، أولهما هو القراءة التي يتبناها التنظيم للأحداث، فهو يرى أن الفرصة مواتية لتعزيز مواقعه في وقت تنشغل فيه موسكو بعمليتها العسكرية في أوكرانيا، وهذا يتيح له هامش حركة أوسع خصوصاً إذا ما اتبع سياسة مهاودة تجاه المصالح الأميركية في سورية، والجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن التنظيم لم يعمد للرد على اغتيال زعيمه «أبو إبراهيم القرشي» على الرغم من مرور عدة أشهر على ذلك الفعل، وهذا مؤشر على وجود حالة استعداد لدى التنظيم للتعايش مع المصالح الأميركية، وثانيهما هو أن المصلحة الأميركية في سورية راهناً تتيح له هامشاً للحركة كان قد لمسه جيداً منذ الهجوم على سجن الصناعة بالحسكة، فالعملية وفق المجريات التي شهدتها ما كان لها أن تتم لولا وجود «لين» أميركي يتمثل في تخفيف الرقابة على الحركة وعلى التسليح والتمويل، وما جرى في أعقاب الإعلان عن انتهاء العملية التي استمرت اثني عشر يوماً، والمدة هنا تثير الكثير من التساؤلات والكثير من الشكوك، كان فعلاً مرسخاً لحالة «اللين» سابقة الذكر، فقد ذكرت العديد من الوكالات تقارير تقول بهروب 100 من قادة التنظيم قيل إن بعضهم من قيادات الصف الأول من عيار «أبو دجانة العراقي» و«أبو حمزة شرقية»، في حين أكدت وكالة «سبوتنيك» الروسية أنه جرى تأمين هروب الفارين بقافلة ساندتها حوامة أميركية لعبت دور المرشد للأماكن التي يجب عليهم الوصول إليها لاستخدامها كقاعدة انطلاق للعمليات فيما بعد.
هجمات «داعش» مرشحة للتصاعد في المرحلة المقبلة، والمظلة الأميركية التي تظلل تحركات التنظيم باتت واضحة للعيان، بل إن الأخيرة مرشحة لاتساع رقعتها انطلاقاً من حالة الاحتياج الأميركي لذلك الدور، وواشنطن، إذ تفعل، لا تبدو مهتمة لانعكاسات ذلك كله على حليفتها «قسد» التي قامت «مشروعيتها» على دورها في محاربة التنظيم، فالاختراق «التنظيمي» الثابت بعيد الهجوم على «سجن الصناعة» يرخي بظلاله على كينونة الأولى التي تطالب في حواراتها المتقطعة مع دمشق باحتفاظها بتلك الكينونة كوسيلة للتوصل إلى تسوية لأزمة شرق الفرات، والفعل يزداد وطأة إذا ما أيقنا أن ذلك الاختراق يبدو مطلباً أميركياً فرضته احتياجات مرحلية، وإلا لماذا لم تعمد «قسد» إلى فتح تحقيق موسع عن تلك الحادثة؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن