ثقافة وفن

المعارك الأدبية والفكرية والنهضة … مهمة الأدب هي المحرك النقدي في بدايات القرن الماضي

| إسماعيل مروة

كانت البيئة الأدبية والفكرية والثقافية هادئة غاية الهدوء في بداية القرن الماضي، والنص الأدبي يستكين بين يدي الكتابة الديوانية الرسمية، والشعر في صنعة خالصة تبلغ مرحلة الإملال استمرت لقرون منذ بداية العصر العباسي الثاني، فبعد أبي العلاء المعري لا نكاد نسمع بشاعر كبير حتى جاء محمود سامي البارودي، مع أنه مرّ شعراء كبار كفتيان الشاغوري وابن النقيب ومنجك والبوصيري وسواهم، إلا أنهم كانوا أبناء عصرهم لم يخرجوا عنه مطلقاً، لذلك خبا نجم الشاعر وضعف أثر الشعر، وتضاءل دوره!

النهضة واختلاف الآراء

إن القارئ المتمعن في الإنتاج الأدبي والفكري مطلع القرن العشرين يتوقف عند ظاهرة التحول السريعة ما بين الكتابة التقليدية الديوانية، الغاصّة بالسجع والبديع والكتابة المرسلة السهلة، وقد نجد ذلك في الشخص نفسه، فالإمام الشيخ محمد عبده نفسه بدأ الكتابة على المناهج السائرة، فكانت نصوصه الفكرية والفقهية مليئة بالصنعة إلى درجة ممجوجة، وفي لحظة التحوّل صارت كتابته مرسلة تناسب الإعلام الذي بدأ يحمل رسالته، وتلائم البيئة والعصر، لذلك امتدّ أثره وتأثيره دون سواه من علماء الدين ورجال الإصلاح.

ومع محمود سامي البارودي بدأت نهضة الشعر، لكنه بقي متأثراً بالسابق حتى اكتملت النقلة على يدي أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وسواهما من الشعراء الكبار الذين قدموا شعراً مختلفاً عن السابق، ودخل الشعر حيّز الحياة والتأثير بها وعلى كل صعيد.

المعارك وأثرها

مع بروز عدد من الأسماء في الشعر، وعدد آخر في النثر بدأنا نشعر ذلك الخلاف الفني والفكري والأدبي بين الأدباء الكبار، وقد تأثر هؤلاء دون استثناء من شوقي إلى حافظ والعقاد، ومن محمد عبده إلى الرافعي والمازني وطه حسين بأمور عدة:

– المجتمع والبحث عن هويته.

– الإيديولوجيات والأحزاب.

– التراث والمعاصرة والتعامل فيما بينهما.

– دور الأدب في التحرر والوطنية.

– التعاطي مع العادات والعقيدة والمجتمع.

وما كان لهذه الأمور أن تبرز لولا وجود الإعلام وبذوره العربية الأولى، وقد يسأل سائل: لم كان الموضوع في مصر؟ لأن مصر كانت تتمتع بشبه الحكم الذاتي عن الدولة العثمانية، ولم تخضع لاحتلال أوروبي مباشر مؤثر وطويل، وقد استوعبت كل الذين يملكون الإبداع العربي من سورية ولبنان إضافة إلى المصريين، وبدأت حركة الصحافة عندها، وكان من الطبيعي والحال كذلك أن تكون مثالاً للنهضة الفكرية والإصلاحية.

الكتاب يحمل آراء صاحبه، والدواوين الشعرية تحوي أشعار أصحابها، ولكن أثر الكتاب يبقى دون المستوى في مجتمعاتنا غير القرائية، وفي مصر التي عرفت المطبعة والأحزاب والصحف المتنافسة والتيارات الفكرية وجدت المعارك ساحتها التي تحتاجها، وكانت هذه المعارك صاحبة إسهام في تعميم الثقافة والشعر والفكر، على الرغم من اللبوس الذي حملته في الظاهر، والذي يدلّ على الشدّة والقسوة!

منتجات نقدية

كان الأدباء والشعراء منقسمين بين الأحزاب، الوفد، الأمة وغيرهما، وكانت صحف هذه الأحزاب مركز استقطاب للمنتمين إلى الأحزاب أو لمؤيديهم، وهي تحتاج إلى النصوص التي تغنيها، وإلى المنافسة القوية مع منابر الأحزاب الأخرى، فكان أحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد والزيات، وهذه المنابر والأحزاب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار كانت الميدان الرحب للكتاب والشعراء، وكان التجويد غاية للأدباء، لأن الجانب الآخر كان بالمرصاد، ويقوم بتفنيد كل فاصلة ونقطة، من لغة وأسلوب وفكر وفن، ما رفع مستوى الكتاب والأدب، ولو عدنا إلى الكتب النقدية التي كانت (الديوان للعقاد والمازني- حافظ وشوقي لطه حسين- مقالات محمود شاكر- كتابات محمد مندور- والغربال لميخائيل نعيمة المهجري) فإننا سنجد معركة شديدة.

اختلطت فيها أمور:

1- المنافسة الشديدة والغيرة كما بين شوقي والعقاد والمازني.

2- الخلاف الإيديولوجي والعقيدي كما بين محمود شاكر ولويس عوض.

3- الخلاف في النظرة للتراث والنقد كما عند مندور.

4- الصراع الطبقي كما بين حافظ وشوقي.

والصراع الطبقي وحده هو الذي جعل طه حسين، وهو الناقد الكبير والمهم يقف إلى جانب حافظ، وينحاز إليه على حساب شوقي، وقد اعترف طه حسين بانحيازه فيما بعد، وبعد مضي قرن من الزمن على رحيلهما بقي شوقي علامة الشعر العليا الفنية، ولا يقاربه حافظ فنياً، وذلك بخلاف رأي معاصريه من النقاد.. وما دار بين طه حسين والرافعي، وطه حسين ومحمود شاكر لم ينل من طه حسين وبراعته وقدرته النقدية العالية وبقي علامة نقدية مهمة على الزمن.

إن الحركة النقدية والمعارك النقدية على طرافة وغرابة ما يتم تداوله عنها، وعن شخصياتها حملت إلينا أدباً رفيعاً، ونقداً عالياً، وشعراً متفوقاً، وخلقت نوعاً من التنافس استمر ينمو ويرتفع في وتيرته حتى الربع الأخير من القرن العشرين، وبعده خبا نور النقد وتحول إلى أمور شخصية لا علاقة لها بالنص والفكر.. كانوا يتصارعون على صفحات الجرائد والمنابر وفي المساء يجتمعون في كرمة ابن هانئ.. إنها المعارك التي أنتجت بدائل الأدب وجواهر النقد، لماذا غابت هذه المعارك النقدية؟ لماذا تغيّر أدباؤنا ولم نعد نسمع بأديب قادر على تقبل النقد؟

ويسألون عن النقد ودوره!

ويسألون عن تراجع الأدب!

عن العلاقة بين الأدب والنقد!

إنها معادلة تعتمد السلامة والتقبل، والتعدد والتنافس، والاحترام للمنتج ومناقشته.

فهل نصل مرة جديدة إلى هذه المرحلة؟

هل تساعد المنابر على وجود تنافس في الأدب والنقد؟

ربما انتهى الزمن مع التطورات التقانية المذهلة التي لم تترك مجالاً بعد تكاسلنا وابتعادنا عن النص وجوهره، والنقد وأهميته.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن