ثقافة وفن

ميشيل كرشة و وجهه الغائب … (يوم لم يكن لدينا حبش) لوحة سورية في مواجهة غورو … بورسعيد والمشاعر التي اجتاحت الوطن العربي إبان العدوان الثلاثي

| سعد القاسم

باعتباره رائد الاتجاه الانطباعي في الفن التشكيلي السوري، تلازم اسم ميشيل كرشه مع لوحات مشاهد الطبيعة. كما تلازم اسم توفيق طارق مع لوحات المعارك التاريخية.‏ وقد دفع ذلك الاختلاف بين أسلوبين فنيين بعض النصوص الكتابية للحديث عن توجهين سياسيين أحدهما تحرري، والآخر غربي. وعن أن فن ميشيل كرشه لقي الدعم من المحتل الفرنسي، لكونه يحاكي الاتجاهات الانطباعية السائدة في فرنسا، حينذاك، ذهب بعضهم للقول إن سلطة الاحتلال قد أوفدت ميشيل كرشه لدراسة الفن في فرنسا على حين أكدت روايات غيرها أنه ذهب على نفقة أسرته، لدراسة الهندسة لكن ميله العارم نحو الفن جعله يبدل وجهة دراسته بما لا يتناسب مع رغبات أهله.‏

نشرت قبل ست سنوات رواية السفر على نفقة الأسرة، وقد سألني الفنان بطرس المعري يومذاك عن مصدرها فأجبته أنه الدكتور عبد العزيز علون (رحمه الله) وقد ذكرها في محاضرة عن ميشيل كرشه عام 2006 في القاعة الدمشقية بالمتحف الوطني في دمشق بحضور عدد من أفراد أسرة الفنان، وحضور أستاذنا الياس زيات، وقد كان ميشيل كرشه معلمه الأول، ولم يعلق أحد عليها.

ميشيل والبعثة الفنية

إثر نشر الحلقة الماضية عن ميشيل كرشه أرسل لي السيد غالب صوان نصاً للصحفي العريق طوني توما جاء فيه أنه إبان الانتداب الفرنسي حصل أربعة طلاب (شوام) متفوقين على منح دراسية فرنسية في كليتي الآداب والفنون في جامعة السوربون الشهيرة. هم: فؤاد سمرة (خال السيد طوني)، ومعروف الدواليبي، وأنطوان عين وميشيل كرشه. ويضيف السيد توما إنه لدى اندلاع الحرب العالمية الثانية استنفر الشباب الفرنسي إلى الجبهات كافة حتى لم يبق إلا الطلاب الأجانب الذين نقلتهم سلطات (فيشي) إلى مدينة بوردو حيث استكملوا دراستهم في السوربون التي انتقلت معهم إلى هذه المدينة إلى حين تحرير باريس.

سواء كان ميشيل قد سافر على نفقة أسرته، أم أوفد من سلطات الانتداب، فإن هذا لا يغير من جوهر الأمر شيئاً. الأهم من كل ما سبق هو معرض ميشيل كرشه في المتحف الوطني في دمشق عام 2006 الذي أقيمت محاضرة الدكتور علون بمناسبته، فقد أتيح للجمهور من خلال هذا المعرض مشاهدة ثلاث من لوحاته، كان لها، لو شوهدت قبل ذلك، أن تحول دون ظهور الآراء والكتابات التي كالت الاتهامات الظالمة لتجربته، أو وضعتها خارج الهم الوطني.‏

تلتقي هذه اللوحات (أو اثنتان منها على الأقل) مع لوحات ميشيل كرشه التي ألفناها، والتي تؤكد رهافته البصرية وخصب مخيلته اللونية، وحساسيته الفائقة تجاه نور الشمس وانعكاسه على السطوح المتباينة، غير أن هذه اللوحات الثلاث تملك أهمية استثنائية بفعل أنها تلقي الضوء على موقف الفنان ومفاهيمه وأفكاره التي ظلت مغيبة عقوداً طويلة.‏

لوحات فكرٍ لها تاريخ

أولى هذه اللوحات وأكثرها أهمية، لوحة ثلاثية صغيرة إلى حد يمكن الاعتقاد معه أنها مشروع لوحة أكبر. هذه اللوحة التي تحمل عنوان (يوم لم يكن لدينا جيش) مؤرخة عام 1947 وتصور الجنرال غورو يرفع يده اليسرى بالتحية العسكرية (يده اليمنى مقطوعة) لقبر يحوم فوقه طيف شهيد بجوار إكليل يحمل ألوان العلم الوطني، فيما تمتد وراءه مقابر كثيرة وفي آخرها ملامح دمشق وجامعها الكبير. وخلف الجنرال الذي يشغل الجانب الأيسر من اللوحة اصطف قادته وأفراد سلطته وآليات جيشه وجنوده الذين اقتيدوا قسراً من المستعمرات الإفريقية وبينهم فرسان عرب. أما في الجانب المقابل فنجد حشداً تتقدمه أرامل وأيتام تشير إليهم ملابسهم السوداء ويطل من فوق الحشد طيف رأس حصان حزين وكأنه يرثي فارسه الشهيد.‏ ومع أن عنوان اللوحة يحمل تعبيراً قوياً. فإنها من دونه لم تكن لتخسر شيئاً من قوتها التعبيرية رغم أن الفنان ظل فيها ملتزماً إلى حد بعيد بأسلوبه الانطباعي.‏

وحدة الشعور العربي

أما اللوحة الثانية التي أثارت كثيراً من التساؤلات فتحمل تاريخ 1956 سنة العدوان الثلاثي على مصر. وقد حملت تأويلات كثيرة قبل أن يلحظ الحضور اسم (بور سعيد) المدون عليها. فقد أخذ العلم الأحمر الذي يشغل مساحة واسعة فيها والزعيم الذي يقف قبالته تفكيرهم بعيداً عن مكان وزمان الحدث. وكان لا بد من الانتباه إلى الشعار البريطاني على طائرات تنتمي إلى زمن غير زمن الثورة الروسية أو الحرب العالمية الثانية. في لوحة (بور سعيد)، عبر ميشيل كرشه عن مشاعر اجتاحت الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه سخطاً على العدوان وتقديساً للمقاومة الباسلة التي أبداها الشعب المصري وابتهاجاً بالموقف السوفييتي المناصر للشعب المصري. وقد استعار في جزء أساسي من اللوحة أسلوب الفن السوفييتي في تلك المرحلة وخاصة فن الملصقات، وفن النُصب التذكارية إضافة إلى تصوير (المارشال بولجانين) رئيس الوزراء السوفييتي حينذاك، الذي ارتبط باسمه الإنذار السوفييتي الشهير الذي وجه لقوى العدوان.‏ ‏

وثالث اللوحات تحمل تاريخ عام 1967 وتصور مخيماً للمهجرين الفلسطينيين. والمفارقة القاسية في تلك اللوحة التي ظل فيها ميشيل كرشه أميناً لأسلوبه الفني هي أن المشاهد يعتقد للوهلة الأولى أنه أمام إحدى بطاقات أعياد الميلاد قبل أن يلحظ المشهد المؤلم.‏

الأسلوب الفني ليس مقياساً للوطنية

قدمت هذه اللوحات دليلاً على أسلوب الفنان سواء أكان واقعياً أم انطباعياً أو سريالياً ولا يصح مقياساً لانتمائه الوطني. والخطأ الذي وقع بالماضي بحق ميشيل كرشه يجب ألا نسمح بتكراره مستقبلاً. معه.. أو مع غيره.‏ والشيء بالشيء يذكر فقد أشير في الحلقة الماضية إلى مقالة نشرها الدكتور سليم عادل عبد الحق عام 1954 في مجلة الإذاعة السورية تناول فيها السيرة الإبداعية للفنان كرشه مستعرضاً بداياته ومراحل دراسته والتيارات الفنية التي تأثرت بها تجربته، وكذلك المواضيع التي يختارها والألوان التي يهواها.‏ وفي سياق المقالة سرد الدكتور عبد الحق ردود فعل النقاد الفرنسيين على لوحات ميشيل كرشه حين عُرضت في باريس، حيث حكى (بول بوشيه) الناقد الفني لمجلة (الألوستراسيون) الفرنسية بإعجاب عن تلك اللوحات. لكن (بوشيه)، ربما بحكم تصوراته المسبقة، لم يتوقع وهو يقرأ الحرف الأول من اسم الفنان أن يحمل فنان سوري اسم ميشيل فقدم فناننا باسم محمد كرشه. والأسوأ من ذلك أن مجلة الإذاعة والتلفزيون (فنون) قد أعادت عام 2006 نشر المقالة بالتزامن مع معرض ميشيل كرشه السابق الذكر، فلفتت المقالة انتباه ثلاثة صحفيين محليين فاستشهدوا ببعض ما جاء فيها.

لكن لم يتطرق أي من هؤلاء الثلاثة إلى النص الثري للدكتور عبد الحق، وإنما استشهدوا فقط بالأسطر الثلاثة التي تضمنت رأي الناقد الفرنسي! لأنه فرنسي فحسب.. رغم أنه لا يعرف الاسم الصحيح للفنان.. وأنهم هم لا يعرفونه..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن