من دفتر الوطن

الواجب المُلِحّ

| حسن م. يوسف

من المعروف أن الحقيقة في الحرب لا تناسب أياً من الأطراف المتصارعة، لذا يميل من يعتاشون من بيع الكلام لكتابة مقالات تشبه المفرقعات، أي تحدث ضجيجاً من دون أن تصنع وعياً. وقد تكرم العديد من الأصدقاء خلال الأيام القليلة الماضية بإرسال مقال من هذا النوع مع الترويسة التالية: «نوصي بقراءته بتمعن شديد ونشره وحفظه في مذكراتكم». المقال بعنوان: «تحرير العالم من الأوروبيين». قرأت المقال بتمعن شديد تعبيراً عن احترامي لمن تفضلوا بإرساله. صحيح أن كاتب المقال يستند في استنتاجاته لمعطيات تاريخية ثابتة ومعلومات لا مجال للشك فيها، لكنه يجتزئ تلك المعطيات من سياقها ويتغاضى عن امتداداتها في مختلف أنحاء العالم، ما يجعل المقال بمنزلة محاولة لنشر الوعي الزائف، وقد علمتني تجاربي المرَّة أن الوعي الزائف أشد خطورة من الجهل.

أخطأ الكاتب في جملته الأولى عندما وصف الأوروبيين بأنهم (شعب) يتكون من عدد من الإثنيات، فهم شعوب متعددة! كما أخطأ عندما زعم أن الأوروبيين عموماً يتميزون عن بقية شعوب العالم بـ«القسوة الشديدة لدرجة جعلت التعذيب والقتل عندهم نوعاً من التسلية». ولكي يبرهن على كلامه ذكر حلبة الموت الكولوسيوم في روما حيث كان الناس يستمتعون بمشاهدة الأسرى وهم يقدَّمون طعاماً للأسود التي تم تجويعها. ولكي يؤكد على صحة استنتاجه يذكرنا بحرب الثلاثين عاماً وبحرب السنوات السبع والحربين العالميتين الأولى والثانية، كما يذكرنا بإبادة الأوروبيين للهنود الحمر ومأساة العبودية وحرب الأفيون ومجازر البوسنة وفضيحة سجن أبو غريب في العراق، ولا يفوته أن يذكرنا بويلات الاستعمار الأوروبي الذي لا يزال مستمراً بصيغ مختلفة في مناطق كثيرة من العالم.

صحيح أن تاريخ الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية حافل بكل ما هو قبيح وشنيع، لكن النزاهة تقتضي أن ننظر إلى تاريخ البشرية ككل متكامل، وألا نسلط الضوء على جانب دون الجوانب الأخرى، والحقيقة التي لا مجال للشك فيها هي أن الأوروبيين ليسوا وحدهم الذين اقترفوا الشناعات، ففي جنوب شرق آسيا لا تزال تدور في ميانمار منذ ستين عاماً أطول حرب أهلية في العالم. أما القارة السوداء إفريقية فحصتها هي 56 % من الصراعات التي تجري في العالم! ولا يقل تاريخنا نحن العرب هولاً عن تواريخ الشعوب الأخرى، فقد دامت «داحس والغبراء» بين عبس وذبيان 40 عاماً، ودامت حرب البسوس مدة مماثلة بين قبيلتي تغلب وشيبان، ويصنف المؤرخون حرب بني أصفهان التي دامت 77 عاماً بأنها «من أكثر الحروب دموية في التاريخ». أما أقبح الحروب في تاريخنا الحديث فأولها احتلال الكويت وأخطرها الحرب التي تشن حالياً على اليمن بغية تأبيد فقره ومنعه من استثمار ثروته الضخمة من الغاز!

صحيح أن أوروبا هي أم النازية والفاشية وإلى ما هنالك من الشناعات التاريخية، إلا أن كل ما سبق لا يجيز لنا إطلاق استنتاجات واتهامات من هذا النوع، فـ «الدعوة لتحرير العالم من الأوروبيين» تفوح منها رائحة عنصرية كريهة، تسيء لنا ولقضايانا العادلة. وقد صدق المفكر علي شريعتي عندما قال: «إننا نخدع شعوبنا عندما نضع الغرب شماعة نعلق عليها جميع مشاكل ومصائب مجتمعاتنا، فهذا يعمينا عن معرفة الأسباب الحقيقية وراء تلك المشاكل».

الواجب الملحّ الذي يجب أن يتصدى له أصحاب الكلمة الآن، ونحن على حافة ليل نووي قد لا يليه نهار، ليس نشر اليأس وزيادة الشقاق والكراهية بين البشر، من خلال تبادل الاتهامات بشأن شناعات الماضي، بل الدفاع عن الأمل، وتحفيز الشعوب كي تتحمل مسؤولياتها تجاه المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن