ثقافة وفن

مروان المحاسني وداعاً..

| إسماعيل مروة

حين يرحل رجل مثل الدكتور مروان المحاسني، فرحيله يمثل خسارة كبرى وعلى مستويات عدة. أقل واحد منها هو الجانب الإنساني والجسدي، ولكن الخسارة الكبرى تتمثل في خسارة الوسط الطبي لطبيب ماهر وعالم درس الطب عن جدارة، وتخصص في أرقى الجامعات العالمية، وأخلص للتدريس في سورية والمداواة فيها، والخسارة الأخرى تتمثل في خسارة طبيب لغوي شغل منصب رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق بعد رحيل أستاذنا الرئيس السابق الدكتور شاكر الفحام، وفي هذا الجانب درس المحاسني على أيدي الكبار في كلية الطب بجامعة دمشق، ويذكر بالعرفان أستاذه الدكتور حسني سبح الرئيس الأسبق للمجمع، والذي شاركه في أبحاث وكتب طبية في خدمة اللغة العربية، فأهلته في نظر أستاذه ليكون عضواً عاملاً في المجمع.. ومن الممكن لأي قارئ أو باحث أو منقّب في وسائل التواصل أن يقرأ الكثير عن المحاسني الراحل وعمله المجمعي أو الطبي، وشأنه شأن أي إنسان، هناك من يخالفه أو يوافقه.

وقد سمعت الشيء ونقيضه ما يتنافى مع أخلاق العلم والعلماء، ولأنه لم يكن لي أي عمل أو تواصل مع الراحل الجليل، فليس بإمكاني أن أتحدث عن مجمعيته وعلمه، إلا ما نشر على الصفحات.. قلت: إن هذه القضايا متاحة ومتوافرة، لذلك أبتعد عنها، وأدلف إلى الجانب الإنساني في حياة الأستاذ الدكتور المحاسني، فقد عرفته إنساناً عن قرب، وأتيح لي ما لم يتح حتى لمن شاركه الحياة المجمعية، فقد كنت ألتقيه في منزل صديقه الراحل القاضي والوزير والدبلوماسي عبد الله بك الخاني، فهو صديقه منذ الطفولة، وشهادة عبد الله الخاني به وهو من هو عندي جعلتني أنسى كل الهراء الذي أسمعه من عاملين في حقله الوظيفي، واتصل به الخاني ليجمعنا معاً، وكانت لقاءات فيها من الود والحميمية الكثير، وكانت أحاديث المحاسني طريفة وغنية، وحين انتقلت السيدة أمل زوج الخاني إلى رحمة الله، كان المحاسني وزوجه الدكتورة الفاضلة إلى جانب الخاني حباً ومشاركة ودمعة..

والخاني كان سعيداً بصديقه وصحته، وحدثني طويلاً عن ترافقهما في دمشق وباريس، وما كان بينهما من علاقة وطيدة.. وحين توفي الجليل عبد الله الخاني لم يجر له مأتم بسبب كورونا، وبقي حاضراً بطلب من السيد رئيس التحرير، واستمر العمل لإصدار كتاب فيه حديث عبد الله الخاني الفريد والنادر.. وحين صدر الحديث، كان الدكتور المحاسني من أوائل الذين قصدتهم لتقديم الحديث إليه، وأنا أعرف من هو الخاني عنده وماذا يمثل.

إنها لحظة لم أكن أتخيل قسوتها على المحاسني، قصدته في مجمع اللغة العربية بلا موعد، أذن لي بالدخول، وبعد لحظات قدمت له حديث الخاني، قرّبه من شفتيه، قبّله، وقبل أن يبعده كانت دمعاته على الغلاف، بكى وتناول منديلاً ليجفف، وهو يقول: هذا عبد الله. وسعدت حين أتمّ لي المحاسني جزءاً من علاقته بعبد الله الخاني:

أنا وعبد الله من «البروفيه» وأرسلنا أهلنا إلى الجامعة الأميركية في بيروت، لكنني لم أحب الجو فتركت وذهبت للدراسة في أوروبا، وعبد الله تابع، وفي باريس عدنا والتقينا مجموعة من الأصدقاء، وعلى الرغم من السفر والأعباء، فأنا وعبد الله لم نفترق في يوم من الأيام ولم نختلف.

فتح المحاسني الكتاب، قرأ مقطعاً، بكى من جديد وقال لي: هذا هو عبد الله، سرح في النافذة وسمعته يقول: وحده عبد الله من المجموعة عاش كما يريد الله له، وكما يريد لنفسه.. في حياته الوظيفية، وفي حياته الخاصة لم يختلف، إنه الرجل الذي لم يختلف في لحظة، وحافظ على بيته وطبيعته رغم كل التحولات.. وحده عبد الله كان نقياً مع خالقه ونفسه وحياته.

هذه لحظة خاصة عشتها مع مروان المحاسني في مناجاته لعبد الله الخاني، وفي تصالحه مع ذاته.. وددت لو كانت آلة التسجيل معي لأسجل هذه الكلمات.. أكتفي بما حفظته، ومن خلاله أقول: إن الدكتور مروان المحاسني كان رجلاً نقياً في سريرته، وصادقاً في قراءة الأشياء، ويخالف بذلك كل الذين قالوا فيه غير ذلك، وهم قلة من الجهلة والكارهين للعربية والعلم..!

غادر رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق حاملاً معه بساط حياته وعمله ومجده، ولنا أن نفهم كلمته لعبد الله الخاني: عاش كما يريد وكما يريد الله له.

مصاب العلم والعربية فيه جلل، فالعزاء للعربية والطب وأسرته ومحبيه..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن