يوم الجمعة الماضية، توالت الأخبار العاجلة على الشاشات، أتبعت بملاحق إخبارية، تمحورت حول خبر قيام الرئيس بشار الأسد والوفد الدبلوماسي المرافق، بزيارة غير معلنة لدولة الإمارات العربية المتحدة، ولقاء نائب رئيس الدولة في الإمارات في دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ثم الانتقال إلى أبو ظبي للقاء الرجل القوي في الدولة سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
زيارة الرئيس الأسد يرافقه وزيرا الخارجية والمغتربين فيصل المقداد، وشؤون رئاسة الجمهورية منصور عزام، ونائب وزير الخارجية والمغتربين بشار الجعفري، فتحت الباب أمام التساؤلات حول أهدافها، وتسارعت التحليلات والتفسيرات، وخصوصاً أنها جاءت في ظل عملية إعادة رسم خريطة جيوسياسة واقتصادية جديدة يشهدها العالم لا شك أنها ستنتج تحولات مفصلية، وستترك آثاراً طويلة الأمد في مسار التاريخ.
إن زيارة الرئيس الأسد للإمارات العربية، تكتسي أهمية خاصة، باعتبارها الأولى إلى بلد عربي منذ أكثر من عقد كامل، مع ذكرى اندلاع الحرب السورية في العام 2011، ولكونها تأتي قبل نحو أشهر قليلة من التئام القمة العربية المرتقب انعقادها في الجزائر، في الأول من شهر تشرين الثاني المقبل.
في الشكل لا يمكن إطلاق عنصر المفاجأة على الزيارة، لكون وزير خارجية دولة الإمارات العربية عبد الله بن زايد، قام بزيارة سابقة إلى دمشق في تشرين الثاني الماضي، والتقى خلالها الرئيس الأسد الذي تسلّم من عبد الله بن زايد، دعوة رسمية لزيارة دولة الإمارات العربية، تاركاً للرئيس الأسد تحديد الموعد المناسب لتلبيتها.
إذاً تلبية الدعوة الإماراتية كانت متوقعة، بيد أن المفاجأة تكمن في توقيت إتمام الزيارة، حسب التوقيت السوري، وليس حسب أي توقيت آخر، ولا شك بأن البحث في تفاصيل الزيارة والإعداد لها، جرى منذ تسلم الرئيس الأسد الدعوة أي منذ تشرين الثاني الماضي.
القيادة السورية لم ترد وضع الزيارة في خانة الدعاية الإعلامية، أو أن تكون فقط من أجل تلبية الدعوة من دون قطف ثمارها، إنما أرادت من زيارة الإمارات العربية تشكيل محطة منتجة ونقطة تحول جذرية، في العلاقات العربية مع سورية.
ولتحقيق هذا الهدف، جرى التنسيق المسبق والتام بين الجانبين الإماراتي والسوري على مجمل الملفات، وجرى البحث في أدق التفاصيل البروتوكولية للزيارة، كما جرى التوافق على تحديد النقاط الأساسية، التي تعود بالفائدة على البلدين، ولاسيما بعد تذليل الهواجس السورية، تمهيداً للولوج إلى مرحلة تدشين العلاقات العربية مع سورية، وتحديداً من البوابة الإماراتية.
مما لا شك فيه أن زيارة الرئيس الأسد والوفد الرفيع المرافق له إلى الإمارات العربية، ولقاءه صاحب القرار الشيخ محمد بن زايد، جاءت تتويجاً لاتفاق جرى الإعداد له بين القيادتين، وبعناية فائقة وبدبلوماسية سورية عالية الدقة، لم تخطئ الحسابات الإستراتيجية يوماً.
لا ندعي معرفة تفاصيل الملفات التي نوقشت خلال الزيارة، إنما ومن خلال البيان المشترك الصادر عقب انتهائها، يمكننا القراءة والاستنتاج بأن الزيارة كانت وازنة وناجحة ومنتجة وتأتي لمصلحة تعزيز الأمن القومي العربي.
إن اختيار الرئيس الأسد لتوقيت الزيارة هو العامل الأهم وهو الحدث بحد ذاته، وخصوصاً أنها جاءت تعبيراً عن كسر طوق الحصار الأميركي المفروض على سورية، ولا ننسى بأن الامتعاض الخليجي من الإملاءات الأميركية لمنع إعادة العلاقات العربية مع سورية، وصل إلى مرحلة التمرد، الأمر الذي يفسر الاستنفار والأسف والخيبة الأميركية، من زيارة الرئيس الأسد للإمارات وهذا ما يدحض الروايات والتحليلات، التي تحدثت عن تنسيق إماراتي أميركي سبق الزيارة السورية.
أهمية التوقيت تكمن بتلبية الدعوة الإماراتية في لحظة تاريخية، يشهد العالم فيها منعطفاً مفصلياً ينعى سطوة أميركا على النظام العالمي وانتهاء حقبة من التاريخ، تأذن للدخول بمرحلة تعدد الأقطاب، بعد استئثار أميركي غربي منفرد دام لأكثر من أربعة عقود، وخصوصاً أن مجريات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ستحدد مستقبل ونفوذ روسيا في النظام العالمي الجديد، وبالطبع فإن سورية الحليفة لروسيا ستكون صاحبة الوزن في المنطقة العربية والعالم.
إذاً التوقيت الإستراتيجي للزيارة يأتي في ظل إقدام روسيا على خوض غمار تشكيل نظام عالمي جديد وعلى وقع محادثات فيينا التي قد تشهد التوقيع على اتفاق ينهي العقوبات الأميركية على إيران تمهيداً لإعلان عودة الحياة للاتفاق النووي بين إيران ودول 5+1، وهذا الإنجاز إذا ما كتب له النجاح سيكون أول مسمار يدق في نعش الهيمنة الأميركية على المنطقة، ونشوء تحالفات ومكونات وازنة جديدة ومنها سورية.
إنها الزيارة الوازنة بالمعطيات وبالتحولات المنطلقة من المبادئ السورية الثابتة، لكن وبعد بروز أصوات مشككة ناشزة تتساءل عن كيفية قبول سورية بعودة العلاقات مع الدول المطبعة مع العدو الإسرائيلي نقول:
الرئيس الراحل حافظ الأسد قال:
إن المقاطعة العربية لجمهورية مصر العربية، في أعقاب توقيع مصر السادات اتفاقية كامب ديڤيد مع العدو الصهيوني، كان قراراً خاطئاً، وأيضاً قرار مصر السادات كان خطأً فادحاً، أخل بالتنسيق وبالتوازن العربي، فالتواصل والتنسيق مع مصر العربية، لا يعني مطلقاً موافقة سورية العروبة على اتفاق كامب ديفيد.
الرئيس بشار الأسد وفي إحدى خطبه، قال: بالنظر إلى العلاقات مع الإخوة في الدول العربية، يهمنا أن نؤكد أن سورية العروبة تنطلق من المسلمات والمبادئ التي نحرص عليها وعلى ثبات الموقف السوري، الرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني، لكن حين ننادي بالتنسيق العربي، فهذا لا يعني أننا مع المشروع الإبراهيمي أو مع صفقة القرن، وأضاف: إن مقاطعة الإخوة العرب هنا لن تأتي بالنتائج التي نريد، بل إن المقاطعة ستعكس سلبياتها علينا، وهدفنا منع تلك السلبيات، لذلك فإن العمل على تعزيز التنسيق العربي ولو بالحد الأدنى، يبقى الأسلم والأفضل، لصون سورية ولأجل تحصين الأمن القومي العربي والحفاظ على حق القضية الفلسطينية.
من هنا لا يمكننا قراءة أهداف الزيارة، إلا بكتاب الثوابت الوطنية السورية، بالاستناد إلى تاريخ يشهد على صحة رؤية القيادة وثبات الموقف السوري المبني على التمسك بالسيادة وبالثوابت الوطنية وبالهوية العربية لسورية، والتي تشكل خط الدفاع الأول، عن الحقوق العربية والفلسطينية، الرافضة لكل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني في كل الظروف والمراحل.
نختم بالقول إن الزيارة تعني حصول اختراق إستراتيجي وازن وتحول مفصلي، نحو عودة عربية مرتقبة للحضن السوري، واعتراف صريح بأهمية دور سورية المحوري، المرتكز إلى أسس التعاون العربي المشترك، ما يؤكد أن سورية هي قلب العروبة، الضامن الرئيسي للعمق القومي وللأمن العربي، وأنها الرابط المحوري والإلزامي لعلاقة العرب المستقبلية مع إيران النووية.