عبد الوهاب أبو السعود.. الرسام والمسرحي … أغمض عينيه في المسرح مطمئناً إلى أن رسالته قد اكتملت … عرف جورج أبيض وأدى معه بعض الأدوار المسرحية
| سعد القاسم
تجسد تجربة عبد الوهاب أبو السعود (1897-1951) أحلام وطموحات المبدعين السوريين في مطلع القرن العشرين. فهذا الفنان الذي ولد في نابلس (فلسطين) وأمضى جل حياته في سورية، كان فناناً تشكيلياً وممثلاً ومخرجاً مسرحياً، وكان له دوره الاستثنائي في تنشيط الحياة الفنية (وفي المسرح خاصة) حيث اعتبرته بعض الكتابات الرائد الثاني للمسرح السوري بعد أبي خليل القباني.
لم تكن قد مضت سنوات قليلة على ولادته حين هاجر مع عائلته إلى مدينة صيدا اللبنانية، وهناك تعلم القراءة والكتابة فيها على يد الشيوخ، ثم أرسله والده الضابط في الجيش العثماني إلى القاهرة لدراسة الشريعة وفقه اللغة في الأزهر، وقد خطط له أن يصبح رجل دين، إلا أن عبد الوهاب كان متأثراً بفرقة مسرحية زارت صيدا عندما كان صغيراً، فحلم بالفن، وتعلق بالمسرح وتحمل في سبيله كل ما يمكن أن تفرزه مفاهيم مجتمع محافظ. فلما صار في القاهرة ارتاد صالات المسارح فيها وتعرّف إلى إعلام الفن المسرحي، وفي مقدمهم جورج أبيض القادم من باريس حاملاً معه مشروعاً مسرحياً تنويرياً، وشارك كممثل ثانوي في بعض مسرحياته، فأعاده والده إلى صيدا.
من فلسطين إلى صيدا فدمشق
شاءت الظروف أن ينتقل والده إلى دمشق عام 1910 بمهمة عسكرية بعد أن بدأت الإمبراطورية العثمانية تتحضر للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وبدأت أحلام عبد الوهاب تكبر وتقترب من التحقق، كون دمشق تضم نشاطاً مسرحياً، وهي المدينة التي انطلق منها القباني، ولكونه اكتسب خبرة واسعة في المسرح على اختلاف احتياجاته. وبعد أن تحررت البلاد من الحكم العثماني شعر أن انطلاقته الفنية باتت قريبة، فاستعد لعمل كبير يظهر على المسرح مع قدوم الملك فيصل، فالتقى الكاتب معروف الأرناؤوط صاحب صحيفة (فتى العرب) الذي كتب مسرحية (جمال باشا السفاح) عام 1919 وتدور حول ظلمه ومشانقه، ثم كتب مسرحية (تتويج الملك فيصل) وعرضها بعد فترة زمنية طويلة. وسبق ذلك أن أسس عام 1918 نادي (الاتحاد والترقي) الذي تحول إلى (النادي العربي) بعد خروج العثمانيين. وفي عام 1928 أسس نادي (الكشاف الرياضي)، كما أسس (نادي التمثيل والألحان) عام 1933، إلا أن سلطة الانتداب الفرنسي أغلقت النادي بتهمة سيطرة الاتجاه الوطني عليه، فأسس مع أخيه رشاد (نادي التمثيل والألحان)، وكذلك (نادي الفنون الجميلة).
بين عامي 1934 و1937 سافر أبو السعود إلى باريس على نفقته الخاصة، (تذكر رواية ثانية أنه أُرسِل في منحة لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في باريس، وعندما قُطعت عنه المنحة تابع دراسته على نفقته الخاصة)، فدرس الرسم والتصوير الزيتي، وارتاد المسارح، وتجول في المراسم والمتاحف. كما زار إيطاليا وإسبانيا، ودرس في الأخيرة الفنون الإسلامية، وأولى اهتماماً خاصاً بالزخرفة.
الأسلوب الفني الواقعي
سار عبد الوهاب أبو السعود على خطى توفيق طارق لجهة الأسلوب الواقعي، مع بعض الميل نحو الانطباعية، رسم الكثير من اللوحات منها ما اعتمد على الخيال والعودة إلى حوادث التاريخ العربي مثل لوحات: طارق بن زياد، فتح الأندلس (محفوظة في المتحف الوطني في دمشق)، حرق السفن، معركة اليرموك، خالد بن الوليد، عمر بن الخطاب على أبواب بيت المقدس، أبو علاء المعري ومنها لوحات مأخوذة من الطبيعة كالقرى المحيطة بدمشق، التكية السليمانية، قصر الحمراء في الأندلس، ثم موضوعات من الحياة اليومية مثل الحكواتي في مقهى النوفرة. والمؤسف أنه لا تتوافر صور لهذه اللوحات عدا بضع لوحات وثق ثلاثاً منها الفنانان حسان أبو عياش ومحمد حسام الدين في سلسلة «فنانون تشكيليون سوريون»، وهي المنشورة هنا. ولوحة لبدوي من مقتنيات المتحف الوطني في دمشق زودتني بصورتها – مشكورة – السيدة هيام دركل. وقد أثار اهتمامه الوجوه البدوية التي كان يلتقي أصحابها في منزل الأمير (نوري الشعلان) في الحي المسمى باسمه وسط دمشق. وكما جاء في حلقة سابقة كان أبو السعود يتنافس مع ميشيل كرشة وسعيد تحسين من خلال المكتبة العمومية في دمشق التي كانت تعرض على واجهتها كل أسبوع لوحة جديدة لأحد الفنانين الثلاثة.
كان تأثير الرحلة الأوروبية كبيراً في نظرته إلى الفن المسرحي خاصة، وحين عاد إلى دمشق، أراد أن يحقق أحلامه الفنية ومشاريعه المسرحية، وقد لاحظ مظاهر العجز واليأس وهيمنة الفرق المسرحية التجارية، ولما لم يجد أملاً في فرقة مسرحية تقدم أعمالاً مهمة، لجأ إلى المسرح المدرسي، مطوراً هذا الفن الجديد، ينتقل من مدرسة إلى أخرى، يقدم عروضه في الباحة، أو أي مكان آخر، ويدرب الفتيان على التمثيل، ويؤسس قواعد الفن المسرحي في مدارس دمشق. ويصرف على الأزياء والديكور من جيبه، كان يشرف على العرض والديكور والتزيين والأزياء وحتى تركيب الستائر، ولم يكن يهتم بالخشبة ليعرض مسرحية عليها، إنما كان بإمكانه تقديم مسرحية في أي مكان في حال توافر قطعتي خشب، وقطعة من القماش كما يقول. وقد قدم العديد من العروض المسرحية على مسارح دمشق، وكان رواده من النخب السياسية والمثقفة، كما شارك في وضع أول منهج علمي لتعليم الرسم في المدارس الإعدادية في سورية، وأسس عدة نوادٍ مسرحية، أو شارك في تأسيسها، منذ أن وصل إلى دمشق.
أبو السعود والديكور المسرحي
قد يكون عبد الوهاب أبو السعود أقدم فنان تشكيلي سوري نعرفه، عمل في مجال الديكور المسرحي، إذ رسم بالألوان الزيتية خلفيات مسرحياته التي ألفها وأخرجها ومنها: وامعتصماه، ميلاد محمد، فتح عمورية، خولة بنت الأزور، تتويج الملك فيصل، جابر عثرات الكرام، عنترة، وفتى العصر، إضافة إلى مسرحيات مترجمة مثل: هاملت، عطيل، لويس الرابع عشر، السيد والبخيل. وكانت هذه الخلفيات موجودة في ثانوية جودت الهاشمي في دمشق، ولا أعلم ما حل بها، غير أنها في كل الأحوال غير موثقة بصور، ومحفوظة فقط في ذاكرة بعض الذين شاهدوها من أساتذة وطلاب.
في التربية والصحافة والمسرح
درّس عبد الوهاب أبو السعود مادة الرسم في مكتب عنبر، وفي دار المعلمين، وكان من طلابه فيها الفنان الرائد صبحي شعيب، الذي يحمل اسمه اليوم مركز الفنون التشكيلية في حمص. كما كان رساماً كاريكاتيرياً، نشر رسومه الكاريكاتيرية في مجلتي (المضحك المبكي) و (حط بالخرج)، وكذلك في مجلة (جراب الكردي). تذكر بعض المصادر أنه رسم لوحات القاشاني في قصر العظم، كما زخرف قبراً فاطمياً. ومع كل ما سبق فإنه لم يستطع الابتعاد عن المسرح طوال حياته، وتوفي بعد عرضه لمسرحية في كنيسة بمصيف بلودان على صدر زوجته، إذ جلس في صالة المسرح مع الجمهور على غير عادته، ولما سئل لماذا جلست مع الجمهور؟ قال: حتى أتأكد من أن تلاميذي يستطيعون حمل رسالة الفن المسرحي بجدارة أم لا.. فأنا مطمئن لمستقبل المسرح في بلدي.