عنوان مقالي لهذا اليوم مستمد من كتاب روسي بعنوان «تاريخ نهب روسيا»، وترجم للعربية عام 2005، والكتاب يتناول مرحلة الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين في تسعينيات القرن الماضي، وهي المرحلة التي يؤكد العديد من الخبراء الروس أنها مرحلة كارثية، كادت تؤدي إلى موت الشعب الروسي ونهايته، وقد كان الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، ينظر إلى تلك المرحلة أنها مرحلة ذهبية، لأنها المرحلة التي تم فيها تحطيم سيادة روسيا واستقلالها، وتحولت إلى بلد مستباح، أُفقر فيه مئة مليون روسي حسب مؤلف الكتاب، إذ تأثرت قطاعات واسعة من المجتمع الروسي، وبرأي مؤلف الكتاب فإن الاتحاد السوفييتي الذي كان يُصنف على أنه ثالث عملاق اقتصادي بعد أميركا واليابان، تحطم في عهد يلتسين خلال 4 سنوات بسبب سياسة العلاج بالصدمات التي اتبعها فريقه الاقتصادي، ولقد افتخر يغور غايدار وأناتولي تشوبايس بأنه من حسن حظ روسيا أن «الأزمة مرت من دون حصول مجاعة كبرى»، والحقيقة أن الذي أنقذ روسيا في عهد يلتسين هو أن الشعب الروسي عاد إلى الأرض «أي الزراعة»، التي لم تخذله حاملاً المعول بيد، وكيس البذار في اليد الأخرى، وهو ما ساعد الشعب على تفادي المجاعة في عامي 1992- 1993 حسب بافل خليبنيكوف مؤلف الكتاب المذكور.
لقد كانت تلك المرحلة استكمالاً لمرحلة آخر الرؤساء السوفييت ميخائيل غورباتشوف التي انتهت بإنزال العلم السوفييتي في 25 كانون الأول 1991، وتقديم تنازلات هائلة ومشينة وفقاً لرأي الكثيرين في روسيا، أي التفريط بالسيادة والاستقلال، وهو الخط الذي أكمل به يلتسين، وكاد يؤدي بروسيا ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي إلى النهاية نفسها التي كان يسعى إليها الغرب، ولهذا فإن واشنطن وحلفاءها كانوا يرون في يلتسين زعيماً ديمقراطياً على الرغم من أنه قصف البرلمان الروسي في عز النهار، وعلى مرأى من «العالم الديمقراطي الحر» كما يصف الغربيون أنفسهم، ومع ذلك لم ينبس أحد ببنت شفة ضده، أما الرئيس فلاديمير بوتين فإنهم يصفونه بأنه استبدادي ومجرم حرب، فقط لأنه يعمل لمصلحة روسيا، ويحافظ على سيادتها واستقلالها وأمنها القومي، فالغرب لا يرى الديمقراطية إلا بمنظور ما يحقق مصالحه، وبالتالي كلما كان الزعيم السياسي في أي بلد مستعد لبيع سيادة بلاده واستقلالها، كلما كان ديمقراطياً ومقبولاً بنظر الغرب، والعكس صحيح.
قبل أيام طالب جورج سوروس صاحب مؤسسة «المجتمع المفتوح»، والممول الأول للثورات الملونة في العالم بإزاحة الرئيس بوتين، والصيني شي جي بينغ من السلطة، لأن عدم إزاحتهما -حسب رأيه- سيؤدي إلى وقوع كارثة عالمية، لكن كارثة على من؟! بالطبع الكارثة بالنسبة لـسوروس وأمثاله، في وجود زعماء أقوياء يحرصون على مصالح شعوبهم واستقلال بلدانهم، وهذا الأمر لا يشمل الدول الكبرى مثل روسيا والصين، وإنما يشمل دولاً أخرى مثل سورية، فالرئيس بشار الأسد يتعرض منذ عقد من الزمن لهجوم إعلامي ونفسي لا يختلف كثيراً عما يُشن الآن ضد بوتين وجي بينغ، والأمر يمتد إلى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والكوري الديمقراطي كيم جونغ أون، والإيراني إبراهيم رئيسي، وأي زعيم سياسي يخدم شعبه واستقلال بلاده وسيادتها، فها هو الزعيم البرازيلي لولا دا سيلفا الذي قاد البرازيل خلال سنوات، ليجعلها من الاقتصادات البازغة في العالم، يتعرض للظلم والسجن لسنوات بتواطؤ بين المحكمة العليا وسياسيين يمينيين، ولكن وثائق كشفت حجم المؤامرة عليه، ما أدى إلى إطلاق سراحه وعودته للحياة السياسية، ومجرد عودته أثارت قلق واشنطن وأدواتها، خاصة أن أداء الرئيس الحالي جايير بولسونارو موضع إشارات استفهام كبيرة.
يؤكد الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين على ضرورة التخلص من مد الوعي الاستعماري الغربي، ويرى أن كل حضارة أو مجتمع يجب عليها البحث عن نموذجها الخاص في الفكر السياسي بعيداً عن الغرب، بدءاً بالتعليم والثقافة بهدف بناء وعي يقوم على العادات والتقاليد والإرث التاريخي والفكر الوطني، وليس المستورد، ويؤكد أن السيادة والاستقلال يجب أن يكونا قيمة كبرى بالنسبة لروسيا ولكل الدول.
إذا انطلقنا من كلام دوغين بالنسبة لروسيا، فماذا يمكننا القول بالنسبة لسورية؟ هنا دعوني أحاول تقديم بعض الأفكار للاستفادة من تجارب الآخرين، والأهم الدروس المستخلصة بعد أكثر من عقد ونيف على الحرب العدوانية على بلدنا وشعبنا:
أولاً: إن أحد أخطر أهداف الحرب علينا كان تدمير الشعب السوري، وتحطيمه بشكل كامل، وإنهاء الدور الذي كان ومازال يلعبه على صعيد المنطقة، أي الدور الرسالة، دمشق كانت ومازالت رمزاً للرسالة الإنسانية والحضارية والتجانس، وكذلك حلب والمدن السورية كلها.
ثانياً: استهداف الوعي الجمعي لنا كسوريين تجاه القضايا الدينية والوطنية والقومية، واجتثاث الجذور العربية الحضارية، وتحويلنا من عروبيين إلى طائفيين ومذهبيين وإثنيين، وقتل قيم الإسلام الصحيحة التي نشأنا عليها، وتدمير المسيحية المشرقة، وسحق عاداتنا وتقاليدنا لإدخال قيم جديدة تقوم على المادية البحتة والأنانية والمصلحة الشخصية بعيداً عن المصلحة الوطنية ومصلحة المجتمع.
ثالثاً: إن الديمقراطية التي يتناولها البعض كلازمة في كل حديث وتصريح، هي مطلوبة، ولكن أي شكل لها، وتطبيق مناسب لمجتمعنا بما يتجانس مع تاريخنا وإرثنا الحضاري؟ فالذين يتحدثون عن المرحلة الذهبية من تاريخ سورية، أي ما قبل حكم حزب البعث، يتناسون تماماً عن قصد أو عن جهل أنها شهدت انقلابات عسكرية عدة، كانت تقود البعض منها سفارات غربية، ومنها السفارة الأميركية مع انقلاب حسني الزعيم نموذجاً، ولهذا فإن هذه المرحلة الذهبية لم تكن مرحلة استقلال وطني وسيادة كاملة، أما مرحلة ما بعد الحركة التصحيحية التي قادها الراحل الكبير حافظ الأسد، فقد أسست لنهج جديد تحولت خلاله سورية إلى لاعب مهم في المنطقة والعالم، ومع ذلك يسمونها في الغرب «دكتاتورية»، بينما يصفون مرحلة تدخلاتهم السافرة بالديمقراطية والذهبية! كما كان عهد يلتسين كمثال من روسيا.
رابعاً: إن الذين يعتقدون أن الخلاص وتخفيف الآلام لشعبنا يحتاجان لانتظار لجنة مناقشة الدستور، أو مبادرات خارجية من هنا أو هناك هم واهمون، ذلك أن ما يحدث ضد بلدنا فيه جانبان: الأول موضوعي يرتبط بالصراعات الإقليمية والدولية، وتشكل نظام عالمي جديد، ونحن جزء أساسي منه، والثاني ذاتي يرتبط بقدرتنا على تفعيل الإمكانات الذاتية، وهي كثيرة وموجودة وكامنة، ولقد أشرت في بداية مقالي إلى ما قاله الكاتب الروسي خليبنيكوف من أن ما أنقذ روسيا من المجاعة هو المعول والبذار في تسعينيات القرن الماضي، أي لابد لنا من التركيز بقوة على الأمن الغذائي لشعبنا كأولوية مطلقة، لكن بطرق مبتكرة وجديدة، وهذا تحدٍّ أمامنا علينا تجاوزه، والقصة ليست في الزراعة فقط، بل هناك إمكانات ذاتية في المجالات كلها.
خامساً: النقطة الأخيرة، هي أنه ما لم نُغير منهج تفكيرنا الكلاسيكي والتقليدي في التعاطي مع الأوضاع الاستثنائية، فإننا سنبقى ندور في دائرة مفرغة لا أفق، ولا أمل فيها، سواءً بطريقتنا في اختيار المسؤولين عن الشأن العام، أم محاسبتهم، ذلك أنه من غير المعقول أن يقضي البعض فترة مسؤوليته في التفكير بكيفية نهب المال العام، ثم يغادرنا مع ماله إلى بلد آخر لاستثماره، لا بل يبدأ بالتنظير علينا في كيفية إدارة شؤون الدولة عبر «فيسبوك»، من دون أن يحاسبه أحد، أو يُسجن سنوات طويلة ليكون عبرة لغيره؟!
هذه نقاط سريعة وغيرها الكثير، لكن أهمها ألا نعتقد أن أعداءنا سيتركوننا، لا بل سيعملون على إضعافنا أكثر فأكثر، وإحدى أهم وأخطر أدوات إضعاف وقتل الروح المعنوية، هم الفاسدون، فالذي لديه الاستعداد لنهب شعبه وبلده في أصعب الظروف وأقساها مستعد لخيانة وطنه وشعبه في أي وقت، وهؤلاء هم ببساطة الذين يقتلون الأمم، ويؤدون إلى موتها واستنزافها، والحرب معهم لا تقل خطورة وأهمية عن الحرب مع الإرهابيين، إذ لا يجوز هنا أن يشعر هؤلاء بالاطمئنان، ولو للحظة، فهؤلاء مادة خام جاهزة للانقلاب على الوطن في أي لحظة.