كعادتنا نتذكر الحج والناس راجعة! خلال الأسابيع الماضية قرأت أكثر من مقال عن المقاطعة اليهودية (بيروبيجان) الواقعة في أقصى الشرق الروسي التي قرر ستالين في عشرينيات القرن العشرين جعلها وطنًا لليهود بغية إبعادهم عن مراكز القرار وتقليص نفوذهم. وقد بلغ الحماس بأحد الكتاب أن ندد بتعتيم الإعلام العربي على هذه الحقيقة وطالب بـ«الترويج لهذه المقاطعة كوطن يمكن إعادة ترحيل يهود فلسطين إليه… إلخ» وذهب كاتب آخر تأسيساً على هذه المعطيات إلى أن «أوكرانيا هي إسرائيل الثانية… إلخ».
خلال قيامي بكتابة مسلسل «سقف العالم» عن رحلة أحمد ابن فضلان إلى بلاد الصقالبة بلغار الفولغا، تجمعت لدي معلومات ضخمة عن يهود خازاريا، وتاريخ تلك البقعة من العالم، لم أستخدمها في المسلسل. لذا اسمحوا لي أن أقدم لكم عصارة ما تجمع لدي على شكل حكاية.
في عام 309 هـ. الموافق لـ 921 م. عندما كانت الدولة العربية في أوج ازدهارها، وكانت بغداد عاصمة العالم، كما نيويورك خلال العقود الماضية، وصل إلى بغداد سفير من ملك الصقالبة بلغار الفولغا ألموش بن يلطوار، يطلب من الخليفة المقتدر أن يوجه إليه جماعة من لدنه بغية «تعريفه وقومه بالإسلام، وبناء مسجد وقلعة لتحصين البلاد».
ولم يحتج الأمر مني لكثير من البحث كي أكتشف أن دولة الصقالبة الصغيرة تلك كانت تريد، من خلال إعلان إسلامها، الاستقواء بالعرب في وجه دولة الخزر القوية المجاورة، التي اعتنقت اليهودية في عهد الخليفة هارون الرشيد على حد قول المسعودي، الأمر الذي تؤكده المؤرخة تاتيانا غراتشوفا في كتابها «خازاريا المخفية». ففي العام 802م، حضر إلى خازاريا من إيران عدد من التجار اليهود بزعامة الحاخام عبادي بعد اندلاع ثورة ضدهم، ونجح الحاخام الداهية في إقناع خاقان خازاريا، باعتناق اليهودية كي يبقى مستقلاً، لأن اعتناقه للإسلام سيجعله تابعاً لبغداد، واعتناقه للمسيحية، سيجعله تابعاً للقسطنطينيّة. وبعد أن أعلنت اليهودية ديانة رسمية للبلاد، رفض الحاخام دخول جميع السكان في ديانته، وجعل اليهودية حكراً على طبقة النبلاء من كبار التجار وقادة الجيش ووجهاء القوم.
يذكر المؤرخ وعالم الآثار الروسي ليف غوميلوف في كتابه «اكتشاف خازاريا»، أن اليهود المهاجرين «قمعوا بدموية ووحشية أي ثورة شعبية مطالبة بالحدّ من هيمنة اليهود الأجانب».
المهم أن خازاريا سيطرت بفضل موقعها الإستراتيجي على تجارة حرير الصين وفرو سيبيريا، وجبت الضرائب من القوافل التي تمرّ عبرها. وفي العام 965م. ضاق الروس ذرعاً بسياستها فهاجموها من البرّ وعبر نهر الفولغا بقيادة الأمير سفيتيسلاف، فتناثر يهودها في أوروبا الشرقية والوسطى. وأعجب ما أورده المؤرخون هو أن يهود الطبقة الحاكمة في خازاريا اختفوا مع أموالهم وذهبهم قبيل سقوطها بيد الروس. وتقول المراجع الروسية القديمة: «إن الروس عندما دخلوا مدينة «ايتيل» عاصمة خازاريا لم يجدوا فيها أحداً من حكامها أو شيئاً من الخزينة». ويقال إن يهود خازاريا الأغنياء غادروا بأموالهم وذهبهم إلى البندقية وسردينيا عبر بيزنطة، حيث أنشؤوا شركات تجارية بحرية هيمنت على التجارة في البحر الأبيض المتوسط، ضاعفوا عبرها ثرواتهم ثمّ انتقلوا بعدها إلى الأندلس. وبعد ضعف دور إسبانيا، انتقلوا إلى بريطانيا، وأسّسوا بنك إنكلترا المركزي الذي جمع فيه معظم احتياطي العالم من الذهب. وفي أواسط القرن التاسع عشر، قام أحفادهم بنقل أموالهم إلى أميركا التي يطلق عليها «خازاريا الثانية»، وهناك أسّسوا هوليوود والخزينة الفيدرالية الأميركية ومن بقي منهم في أوروبا قاموا بتأسيس الحركة الصهيونية. أما بقية الحكاية فنحن لا نعرفها فحسب، بل نعيشها كمأساة يومية.