الأدب الشعبي مكانته ومدونوه هل استطاع الباحثون تحديد هويته والوصول إلى جوهره؟
| إسماعيل مروة
كنت معنياً بالأدب الشعبي ودراسته، وقد وجدت تيارات عديدة في دراسته، فمن الدارسين من ينظر إلى الأدب الشعبي نظرة دونية، ومنهم من يعلي شأنه فوق قدره، ومنهم من يحاول أن يدرسه على أنه رديف، ومنهم من يراه عامياً بحتاً، ومنهم من يراه خاصة بالفصيح وحده، وإن كانت رتبة الفصيح أقل، وآخرون لهم آراء أخرى، وحين اضطررت لتدريس مادة الأدب الشعبي وجدتني مجبراً على الغوص فيه لأعرف أسراره وماهيته، فكان الأدب الشعبي كنزاً من الكنوز التي لم نصل إلى جوهرها.
محاولة التوثيق
شهدت مرحلة توثيق الأدب الشعبي السوري، والتقيت بمن قام بهذا التوثيق، وعلى الرغم من أن التوثيق أخذ مبدأ المناطقية إلا أنه كان رحلة مقبولة في التوثيق، ومن ثم يتم التعامل مع المادة المجموعة، ولعل أهم من قام بدراسة الأدب الشعبي في سورية الراحل منير كيال الذي قدّم مجموعة من الكتب في هذا المجال، وخصّ بها مدينته دمشق، ولو جمعنا هذه الكتب فسنجد مفهوماً واسعاً للأدب الشعبي: الحكايات، الحمامات، الكنايات، الأساطير، الخرافات، الأهازيج والأغنيات، الحياة الاجتماعية، وفي كثير من هذه الكتب نلمح أن ما يدرسه الأستاذ كيال خصّ به دمشق، لكنه أوسع من ذلك، فهو ينطبق على كثير من المحافظات السورية، وربما امتد ليصل إلى الإقليم السوري وبلاد الشام والبلدان العربية عموماً، مما لا يجوز تخصيصه بمدينة دون سواها.
الأدب والمدن والمناطق
عند إجراء أبحاث في التراث الشعبي يخصّ الباحثون من الطلبة مدنهم بأبحاثهم، فهذا يتناول الرقة وذاك دمشق، وثالث حمص، ورابع الساحل، وهكذا، وحين تبسط الأبحاث نقف عند قضايا مهمة، وهي التشابه بل التطابق بين مدينة وأخرى ومنطقة وأخرى، وما رآه الطالب خاصاً بمحافظة ليس كذلك! وكان التخصيص من باب عدم العلم بالشيء!
ولعل الملاحظة الأكثر أهمية هي في التركيز على الألفاظ العامية، والنظر إلى الأدب الشعبي على أنه عامي، والثانية محاولة تسطيح الأدب الشعبي بحكايات سوقية مرذولة، يرفضها الذوق العام، ومع ذلك هناك من ينسبها إلى الأدب الشعبي والتراث الشعبي! وينسى هؤلاء الخرافة والأسطورة والحكايات وحكايا الجدات والأغنيات والموسيقا وما شابه ذلك، وكأن المهم أن أحشد لأؤكد على وجود أدب شعبي في منطقة مقابل منطقة!!
الأدب الشعبي في ريف اللاذقية
الذي دفعني لهذه الوقفة الضرورية كتاب صادر عن الهيئة السورية العامة للكتاب- وزارة الثقافة السورية للكاتب حيدر محمد نعيسة بعنوان (من الأدب الشعبي في ريف اللاذقية) ومن هنا تبعيته، وكأن الكاتب يقصد بعض التراث الشعبي وليس كله، فهو لم يدونه كاملاً لسعته! في 661 صفحة من القطع الكبير جاء الكتاب الذي أطلق عليه كاتبه في التعريف به اسم (الموسوعة) ما يبشر بأننا سنقف عند هذا التراث بدراسة فنية وفكرية وافية، ومع أهم نصوصه، وبعد سبعين صفحة من الحكايات يأتي الكتاب ليوثق اللهجة العامية وما يتداوله الناس اليوم، فهل هو تراث شعبي خاص! وهل هذا التراث يملك الخصوصية ولم يندمج في غيره؟
عندما نخصص التراث الشعبي في منطقة أو مدينة فالمراد بالدرجة الأولى أن نوثق هذا التراث، وأن نحميه من الضياع، وأن نستوعب هذا التراث من الحكايا إلى الفولكلور والعادات والأساطير والخرافات، أما ما جاء في هذا الكتاب الموسوعي فقد كان رواية لمجموعة من الحكايا، ومن ثم الانطلاق إلى التعابير، أي إلى الكلام الدارج وتدوينه، وهو ليس خاصاً بالمنطقة في مجمله، ولا يمثل تراثاً شعبياً خاصاً أو عاماً (بكرهو، مابحبو، ما فيني حبو) أين القضايا الشعبية في مثل هذه التعابير؟ بل أين الخصوصية فيها؟
الجمع من الأفواه
قد يجمع أحدهم التراث الشعبي تعابير الأغنيات للجدات من الأفواه وهو يراها آيلة إلى الزوال، ولكن هذا لم يحدث في الكتاب، وجلّ ما تم تقديمه هو ألفاظ الشارع المتداولة في السباب والشتائم وغير ذلك، وكل ما جمع كان في العامية، دون أن نوجه النظر إلى أن التراث الشعبي ليس عامياً بالمطلق، ففيه الفصيح- وهو الأغلب- وفيه العامي، ولكن الباحث اتخذ من اللهجات العامية ذريعة للخصوصية، وهي تدرس في إطار اللغة واللهجة، وليس في إطار التراث الشعبي.. وقد يكون وجهة نظر أخرى.. لكن ما يلفت الانتباه أن يكون الكتاب الموسوعة بالعامية مطلقاً، معتبراً ذاك هوية الشعب وعلامته الفارقة، فهذا أمر آخر! وأن يقدم كتاب بالعامية فهذا أمر فيه نظر!
وقد حمل الكتاب ألفاظاً وتعابير من الغريب أن تجد طريقها إلى المطبعة، مع أن لفظاً واحداً منها في رواية أو قصة يتكفل بمنعها أو طلب حذفها، وهي منثورة في الموسوعة ص439 مثلاً، وعدد من الحكايات في البداية، علماً أنها لا تخدم النص، ولا تقدم فائدة في ميدان التراث الشعبي، وتدوينها لا جدوى منها، وهي شتائم في الطرقات وفي كل مكان..!
حدود التراث الشعبي
عندما حدد للتراث الشعبي لدراسته من أهم الجامعات، ومنها جامعة عين شمس في مصر، وعلى يدي الراحلة الدكتورة نبيلة إبراهيم، فإن الحدود كانت لمصلحة تدوين الأدب الشعبي للارتقاء إليه، وليست عملية التدوين هي جمع لكل ما يقع تحت أيدينا، لنكتشف أننا لم نخدم تراثنا الشعبي ولم نقدمه على حقيقته، ولا أقصد تجميله، ففي التراث الكثير من الأمور التي تسيّر حياتنا من الأولياء والصالحين وإلى ما تركته الجدات.. وليس ما يدور في الشوارع، وتأنف النصوص الإبداعية عن إيراده.