شؤون محلية

أثمان الكهرباء انزياح في نهج التسعير.!

| ميشيل خياط

عمل جاري بنصيحة الجابي الآدمي وذهب يوم الثلاثاء الماضي إلى مبنى مؤسسة الكهرباء في دمشق، ووجد أن مدير طلبات الاعتراض والتشريح، وضع في موقف لا يحسد عليه، أفقده صوته في منتصف النهار، لكثرة المجادلة مع المراجعين -الكثر- وتأكيده أن هذه هي الأسعار الجديدة للكهرباء المنزلية في سورية، ومن كان يقول له إن الحساب غلط، كان يذكره أنه بالإضافة إلى سعر الكيلواط الساعي هناك 21. /. رسوم مالية.!

وفِي الحق، كان الرجل-يقول جاري- متعاوناً مع أغلب المراجعين، إذ سرعان ما يحيلهم إلى موظف التشريح (والفعل مستقى من شرائح)، وويل لمن لم يصور عداد الكهرباء، سيضيع يوماً آخر من حياته، أما من أحضر تلك الصورة فيعرضها على ذاك الموظف، الذي يستشير حاسباً أمامه، ثم يهز برأسه ويطلب صورة هوية الشاكي فإذا ما أبرزها، أخذها وضمها إلى وثيقة استخلصها من الحاسب، تحتوي على كميات استهلاك الكهرباء السابقة، و(يكبسها جميعاً)، ثم يضع مسطرة صغيرة، تتيح له أن ينتزع ربع صفحة كتب عليها رقم العداد واسم صاحبه، يعطيها الشاكي ويقول له: راجع غداً الجابي ذاته.

كانت صالة المراجعين مزدحمة لكن أداء الموظفين كان بمنتهى الحيوية والسرعة ما جعل النفوس تهدأ.

في اليوم الثاني راجع جاري، الجابي ذاته، فطلب منه 27 ألف ليرة سورية بدلاً من 110 آلاف ليرة، سأله: هل سأدفع هذا الرقم، في كل دورة…؟

أجاب الجابي: لا أعرف.

أخبرني جاري أنه طار من الفرح للوهلة الأولى، فلقد وفر- مؤقتاً- 83 ألف ليرة سورية، لكنه وهو في الطريق إلى بيته حدث نفسه قائلاً: لو جاءتني فاتورة كهرباء بهذا الرقم البارحة لوقعت على الأرض ولعجزت عن تسديدها، وتمتم (سبحان مغير الأحوال).

ما من شك أن وزارة الكهرباء قد أدركت أنها أخطأت، ولكن (شهادة لله) احتضنت هذا الخطأ بذكاء، عبر قصة التشريح.

هناك فواتير بمئات الألوف وفوق المليون، وهناك من يسدد فوراً مردداً: لم يكن أمامنا خيار آخر، إما المرض من البرد أو دفء نسبي بما تيسر من كهرباء، وهناك من تساءل: ماذا كان سيحدث لو أن الكهرباء 24/24 وليس 24/6.

وإذ نمعن النظر في الواقعة، نجدها خطيرة جداً، فجاري وأمثاله كثر هم يمثلون ما يقرب من 5.5 ملايين عامل ومتقاعد على أجور القطاعين العام والخاص، حيث 70. /. منهم يعملون على الحد الأدنى للأجور وهو 92700 ل.س، في وقت يرجح فيه أكثر الخبراء صرامة أن احتياجات الأسرة السورية في الشهر الواحد، مليون ليرة سورية، وثمة دراسات ميدانية تؤكد أن الأسرة تحتاج إلى مليوني ليرة في الشهر كحد أدنى (6 أشخاص).

ولهذا فإن مثل هذه الفواتير لا تصلح لسورية، أولاً لانخفاض دخل أغلب مواطنيها، وثانياً لعدم وجود بنية تحتية متطورة تتيح للمواطن معرفة كم استهلك من الكهرباء، في يوم أو أسبوع أو شهر، ولاسيما أن أغلب عدادات الكهرباء إما في الأقبية المغلقة، أو في مكان مرتفع من جدران مدخل البناء، وليس من السهل، مراقبتها ولَم يعتد السوري مثل هذا الإجراء. إنني ألاحظ انزياحا في التسعير، يبتعد عن النهج السوري العريق على هذا الصعيد، نهج مستمد من روح أن سورية بلد الفقير وبلد الخطي وعن سمات الأهداف التي ينادي بها أهم حزب من الأحزاب السياسية التي تقود الحياة السياسية والاقتصادية -حزب البعث العربي الاشتراكي -ذي الأغلبية الكبرى في مجلس الشعب.

تذكرني هذه الأسعار بتوصيات نادي روما لخفض الاستهلاك في الثمانينات، وثمة من اعتد بآرائه محلياً، وهناك من تعنت وتجبر، في الدفاع عن سوء واقع الكهرباء وانقطاعها المفرط، فما كان من القائد الخالد حافظ الأسد إلا أن انتصر للمواطن وقال عبارته الشهيرة، في اجتماع برئاسته في وزارة الكهرباء: الكهرباء حق لكل مواطن، وذهبت عبارته تلك مثلاً يعتد به، في وجه من يتنمرون على المواطن الشغوف بالكهرباء للإنارة وتشغيل الأجهزة الكهربائية، ولئن كنا كإعلاميين ضد التدفئة بالكهرباء، إلا أن ظروف الحرب والحصار وعدم توافر المازوت دفعتنا لارتكاب هذا (الإثم) إذ لا بديل إلا الفحم وخطر الاختناق بغاز أول أوكسيد الكربون.

إن أسعار أجهزة الطاقة الشمسية سواء لتسخين المياه أم توليد الكهرباء (بالخلايا الكهرضوئية) مرتفعة جداً جداً.

وما من حل إلا أن تتحمل الدولة عبء الظرف الصعب ريثما تتحسن الأحوال، وأن تقلع – الدولة – عن الرضوخ لاقتراحات سقطت تاريخياً، إذ تم تجاوز مقترحات نادي روما وصندوق النقد الدولي، عبر إقرار الأمم المتحدة في عام 2015، خطة التنمية المستدامة التي ركزت على محاربة الفقر وتوفير الصحة للجميع والاهتمام بالتعليم وتأمين مستلزمات العيش الكريم لسكان الأرض.

ونحن منهم بل في مقدمتهم، أن النصر السوري التاريخي اعتمد بالدرجة الأولى- علينا كشعب سوري – صمد ببسالة وأصر على النصر.

ولَم يكن ما اجترحناه على الصعيد العسكري قليلاً، ولعله يمدنا بالقوة اللازمة للانتصار في المعركة الاقتصادية التي تحتاج إلى سلاح الكهرباء للعيش والعمل والإنتاج.

ولا أرى طريقاً ثالثاً أبداً، وقديماً قيل: الرجوع عن الخطأ فضيلة.

لقد جربتم أسعار الكهرباء الجديدة فكانت مريرة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن