قضايا وآراء

الأمم المتحدة بمرمى سهامِ التصريحات الروسية.. هل تكفي هذه الحرب لإسقاط المنظمة؟

| فراس عزيز ديب

دائماً ما يطرَح البعض باستغرابٍ سؤالاً يبدو بالشكل منطقياً: لماذا لا تمتلك دولة كألمانيا، وهي بهذا النفوذ السياسي والاقتصادي مقعداً دائماً في مجلسِ الأمن الدولي ما يضمَن لها حق الفيتو؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يأتي من صميم آلية نشوء عصبة الأمم وما تبعها من تشكيل الأمم المتحدة فحسب، لكنه بذاتِ الوقت يُضيء على النقطة الأهم: الخاسر عسكرياً لا مكانَ لهُ في التسوياتِ السياسيةِ الكُبرى وما ينتُج عنها من اتفاقياتٍ أو منظماتٍ وهيئاتٍ دولية، وهذا هو حال الدولة الألمانية بعدَ أن أطلقت العبارة الأشهر «الحرب انتهت والبنادق صمتت»، وانتهى الأمر باستسلامِ القوات الألمانية في الثاني من أيار عام 1945 ونهاية الحرب العالمية الثانية.

مع كلِّ أزمةٍ دولية أو حربٍ كبرى وإن لم ترتقِ لتوصيف العالمية، تبدو الأمم المتحدة مكسرَ عصا يحاولُ كلَّ طرفٍ من خلالِ إعادة الحديثِ عنها، توجيهَ رسائلَ في جميعِ الاتجاهات، أهمها دور المنظمة والقوى التي تُسيطر عليها والمكان الذي توجد فيهِ، والقصد هنا ليست الولايات المتحدة كبقعةٍ جغرافية، لكننا نتحدث عن الولايات المتحدة كطرفٍ دائمٍ في أي نزاع لا يعرف عن الحياد إلا كمَا يعرف النظام التركي الوفاءَ بالعهود.

منذُ بدايةِ العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، عادَ من جديد الحديث عن دور وجدوى بقاء هذهِ المنظمة، وفي الحقيقة ليست المرة الأولى التي تكثُر فيها هذه المطالب فهناك من يطرح هذه التساؤلات لأنه يعي بأن هذه المنظمة انتهت مفاعيلها وفقدت مصداقيتها، لكن عندما يأتي الحديث من وزارة الخارجية الروسية وهي الطرف المباشر للنزاع هذه المرة، نبدو اليوم بأننا فعلياً أمام تفصيلٍ جديدٍ من هذه المعركة المتشعبة.

مبدئيَّاً لنتفق بأن أحداً لم يتجنَّ على المنظمةِ الدولية، لكنها واقعياً هي من جنَت على نفسها، فتحوَّلت من كتلةٍ دولية تجمع شعوب العالم وتسعى لتحقيقِ الأمن والسلم الدولي، كما تقول ديباجةَ ميثاقها بالحرف: «نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب»، إلى منظمةٍ يبدو وجودها كعدمهِ، والأهم بأنها لم تسهم بحلِّ أي مشكلةٍ منذ نشوئها، بل وتحولت إلى شاهد زورٍ ليصبحَ نصبَ أوتادِ خيمها في أي بقعةٍ من هذا العالم كنايةٍ عن لجوءٍ جديد وقهرٍ جديد، لتصبح صورة عن حكومات دول العالم الثالث التي نراها تحاول علاجَ الأضرار بدل البحثِ عن مسبباتها.

شهادةَ الزور الأممية تلك تجسَّدت في مئات الأحداث المفصلية التي ضربت هذا العالم، ماذا عن تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي؟ ماذا عن قيام الولايات المتحدة باجتياح دولٍ ذات سيادة تبعد عنها آلاف الكيلومترات من خارج قرارات الشرعية الدولية؟ لماذا يتهرب الأمين العام للأمم المتحدة من توصيف وجود قوات ما يسمى التحالف الدولي على الأراضي السورية بالاحتلال؟ أكثر من ذلك هناك من يتهم الأمم المتحدة بالاشتراك المباشر أو غير المباشر ببعض الأحداث، ماذا لو أُعيدَ فتح ملف مجزرة «سيبرينيتشا» خلال الحرب اليوغسلافية؟ وهل قامت القوات الدولية بتسهيلِ حدوثها لتفجير النزاع الديني في قلب أوروبا؟ هذه التراكمات تبدو عملياً قد وصلت إلى مرحلة الإشباع، لكن ولنكن موضوعيين بذات الوقت فإن كل ما تم سردهُ لا يبدو قادراً على هدمِ هذهِ المنظمة وإعادة بناء منظمة جديدة أو حتى التفكير بنقل مكانها، ليتحقق هذا الأمر لابدَّ من أمرين أساسيين:

الأمر الأول وهو العامل الاقتصادي:

لا نتحدث هنا بالطبع عن الدفعات المستوجب على كلِّ دولةٍ دفعها تحديداً الدول دائمة العضوية، فالكثير من الأرقام تُشير إلى أن الولايات المتحدة مثلاً لم تسدد التزاماتها منذُ زمنٍ طويل لدرجةٍ بلغت فيها نسبة العجز في الميزانية الأممية أكثر من سبعمئة مليون دولار، لكننا ببساطةٍ نتحدث عن سطوةِ الدولار، حيث إنه ما زال يشكِّل العملة العالمية الأهم، ما يجعل الولايات المتحدة تستلهم القوة من سطوةِ الدولار، ربما قد يبدو للبعض بأن القرار الروسي ببيع الغاز والمواد النفطية بالروبل الروسي هو جزء من الضغط على الأوروبيين لجعلهم يأخذونَ مسافة ما عن الأميركي، لكن في الحقيقة يبدو وكأنَّ الروس في تعاطيهم مع ما يجري بأنها حرب الأصيل مع الأصيل ولا وقت للحرب على الوكلاء، هذا القرار وما قد يتبعه بعد ذلك من قرارات ستنعكس حكماً بشكلٍ إيجابي على ما ينتظره الروس من مصيرٍ أسود للدولار، إن امتلكوا النفسَ الطويل، لأنها حرب لم يجرؤ عليها أحد من قبل، وربما قد تكون الحرب الأخيرة التي تهدف إلى إسقاط الدولار من عرشهِ، وفيما يبدو وكأنَ الروس يخوضونها بطريقةِ إما أن ننجح أو ننجح، ولا خيارَ ثالث، فإنهُ من الصعبِ التكهن بالنتيجةِ النهائية، لكن الروس يحتاجون فقط لعدم الخذلان من الأصدقاء والحلفاء.

الأمر الثاني وهو العامل العسكري:

مما لاشكَ فيهِ أن المُنهزِم لا يكتب التاريخ، وحدهم المنتصرون من يفعل ذلك، حتى لو كنت قد تراجعتَ سياسياً أو عسكرياً، لكن من المهم ألا ترفع رايةَ الاستسلام، فرنسا والاتحاد السوفييتي مثلاً خسرتا الكثير من الأراضي في الحرب العالمية الثانية، مع فارقٍ بسيط أن فرنسا تشكلت على أراضيها حكومة رسمية تتبع للمحتل الألماني، ومع ذلك وبعدَ مساعدةِ الحلفاء عسكرياً بدَت وكأنها انتصرت في السياسة ونجحت في أن تكون جزءاً من المجموعة الدولية صانعة القرار، وبالتالي تشكيل الأمم المتحدة بصورتها الحالية.

اليوم ليس هناك صدام عسكري مباشر بين الأُصلاء سينتج عنه منتصر يفرض شروطه في السياسة، مازلنا في المناوشات السياسية تحديداً أن الغرب تحدث عن سعيهِ لسلب الروس مقعدهم في مجلس الأمن، لكنهم لم يحصلوا على مستندٍ قانوني، ولو أُتيح هذا المستند لكان يجب تطبيقه على كل الدول التي غزت دولاً ثانية، بذاتِ السياق، لا أحد يستطيع أن يستقرئ إلى أي حدٍّ سيحصل هذا الصدام، بل يمكننا القول إن هكذا صدام يبدو عملياً ممنوعاً حتى ولو اضطرت كل الدول للتدخلِ والعمل على وقفهِ، لكن بذات الوقت أن يقوم الأميركيون باستنزاف الروس بحربٍ طويلةَ الأمد في أوكرانيا من دون حدوث خللٍ سياسي أو اقتصادي يؤلم الجميع، يبدو ضرباً من الخيال، ما يعني أن الانتصار الروسي في أوكرانيا سيؤدي لانتصاراتٍ سياسية هي حكماً غير قادرةٍ أن تصلَ إلى حدِّ قلب الأمم المتحدة رأساً على عقب، ما لم تتحقق الشروط السابقة، لكنها ببساطةٍ قد تُعيد تصحيح الكثير من المسارات الخاطئة، وأحياناً كثيرة، يبدو تصحيح المسارات أهم بكثير من إعادة البناء، فقط نحن بحاجةٍ لنستيعد العبارة الأشهر في كل النقاط الساخنة: «الحرب انتهت والبنادق صمتت».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن