أيام معدودة تفصلنا عن شهر رمضان المبارك، وفي مثل هذا الوقت من شهر شعبان جرت العادة لدى الدمشقيين على ممارسة بعض الطقوس والعادات القديمة، حيث يقومون بتوديع ما لذ وطاب من الأطعمة والابتعاد عن اللعب واللهو بتقليد دمشقي جميل في ربوع دمشق وهواها العليل وذلك بما يعرف باسم «تكريزة رمضان».
«التكريزة» هي نزهة تقوم بها العائلات إلى خارج المدن، حيث يتم هذا السيران الجماعي في مناطق مطلة على مناظر الخضرة والمياه، لولع أهل الشام بالمياه والخضرة. ويتناولون مختلف أنواع الأطعمة، ويمارسون الألعاب الشعبية، حيث سينصرفون في رمضان للعبادة ولاسيما التراويح والنوافل وقراءة القرآن.
وغالباً ما تبدأ «التكريزة» في النهار وتنتهي بعد العصر بالعودة إلى منازلهم، وقد يجتمع في هذه النزهة الأقارب جميعهم أو تقتصر على الأسرة الصغيرة.
وكان يقوم بـ«تكريزة رمضان» الفقير والغني، ومازالت بعض العائلات بدمشق تقوم بها كنوع من المحافظة على تقاليد الآباء والأجداد، وللتأكيد على صلة الرحم والقربى.
كانت «التكريزة» تحمل صفة عائلية، وقد تكون على شكل جماعات من الأصدقاء الشباب أو العائلات ومن لا يستطع أن يبتعد عن دمشق مسافة طويلة يذهب إلى البساتين القريبة مثل المزة وكفرسوسة وبساتين الشاغور.
وقد لا تقتصر «التكريزة» على العائلات فقط، فقد اعتاد أصحاب المهن اليدوية وأصحاب الورشات والمعامل على اصطحاب موظفيهم في نزهة وداعية قبل رمضان إلى الربوة أو الغوطة وتوزيع مكافآت مالية وبعض المواد الغذائية والتي تعرف بسلة رمضان تقديراً منه لعملهم.
فسحة وداع
ذكر منير كيال المؤرخ للتقاليد الشامية في كتاب «يا شام» الصادر عام 1984 أن «من عادات الدماشقة القيام بما يسمى تَكْريزة رمضان.. فقبل حلول شهر رمضان بيوم أو بيومين يقومون بسيارين (نزهات) الغوطة الشرقية أو مناطق الربوة والشادروان والمقسم والمنشار والغياض، كما جاء في الكتاب أن الشباب يتحلقون حول شاب تبرع بوصلة غناء من الميجانا أو العتابا وأبو الزلف وبعض المنولوجات الشعبية».
وجاء على لسان الباحث والمؤرخ نصر الدين البحرة عن هذا الطقس والتقليد الدمشقي العريق: «هي من عادات أهل دمشق الجميلة التي لم يعد بإمكانهم ممارستها في الوقت الحاضر إلا القليل من العائلات الشامية التي مازالت محافظة على هذا التقليد الرمضاني، وذلك نظراً لهموم العيش ومشاغل الحياة، فقبل حلول شهر رمضان بخمسة عشر يوماً تقريباً أو أقل، كان سكان دمشق يقومون بنزهات عائلية أو على شكل جماعات مع الأصدقاء وكان الناس ينتقلون إلى متنزهات «التكريزة» من محطة الحجاز حالياً مما يروي ولع أهل دمشق بالخضرة والظلال فتفترش كل جماعة جانباً من مكان مطلّ على مناظر الخضرة والمياه بحواجز قماشية تشد بين شجرتين أو أكثر بحيث لا تمنع التمتع بالنسيم العليل والماء المنساب بين الشجر والمناظر الأخاذة».
وأضاف: «من جهتها النسوة تنشغل في إعداد الطعام من أنواع المقالي وشواء اللحوم وغير ذلك، على حين يكون الرجال والشباب بين ورق اللعب وطاولة الزهر، وقد ينفرد البعض بالمساهمة مع النسوة في إعداد الطعام، ولا يخلو الحضور من أحد الشباب المتبرعين بتقديم وصلة غناء على العود أو البزق والدربكة مع المواويل الشعبية».
واعتبر البحرة أن البعض يذهب إلى تفسير «التكريزة» على أنها فسحة وداع لما لذ وطاب يعيش المرء بعدها بعيداً عن ملاذ الحياة الدنيا في روحانية رمضان والتعبد لله».
تكريزة أم كزدورة؟
لم يعرف سبب تسمية «التكريزة» بهذا الاسم، ولكنها تبقى توديع شهر شعبان، والاستعداد لاستقبال شهر رمضان، وبهذا فقد قال بعضهم إن معنى «التكريزة» هو الوداع.
ويرجح بعض المؤرخين أن «التكريزة» كلمة سورية قديمة قدم التاريخ، وبعضهم حولها إلى «كزدورة» ولكن من المعروف أن «الكزدورة» مشوار قصير المسافة، على حين «التكريزة» لمسافة طويلة حيث يخرجون إلى مصايف الربوة ودمر والهامة وقد يبتعدون إلى عين الفيجة وأشرفية الوادي، ويفضل أكثرهم الجلوس على ضفاف الأنهار وينابيع بقين والزبداني، ووصف المؤرخون هذه الطقوس بأنها تكون قبل حلول شهر رمضان بخمسة عشر يوماً تقريباً أو أقل.
ويفضلون في هذه الرحلة نوعية الأطعمة التي تختلف عما يؤكل في رمضان والتي تحتوي على زيت الزيتون كالمجدرة واللوبية والتبولة والفتوش، وأكلات المقالي ولا بد في السيران من أكلات مشاوي اللحوم ومحتويات الخروف كالكبد والطحال والكلاوي.