مع انقضاء الشهر الأول على العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، لم تعد المطالب الروسية متعلقة فقط بنزع سلاحها النووي أو منعها من الانضمام إلى حلف الناتو أو جعلها دولة محايدة، فهذه الأمور قد حسمت لمصلحة روسيا تقريباً، خصوصاً بعدما أكد الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف أن الأهداف الرئيسة للعملية العسكرية في أوكرانيا قد أنجز منها 95 بالمئة، والعمل جار حتى إنجاز المتبقي بالكامل.
لكن بموازاة التصميم الأميركي والأوروبي على الاستمرار بإرسال شحنات الأسلحة الفتاكة إلى حكومة كييف، المترافقة مع حزمة غير مسبوقة من العقوبات الجائرة، التي فرضتها أميركا والتزمت بها دول الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، إضافة إلى حرمانها من نظام السويفت المالي بهدف خنقها اقتصادياً ومالياً، بدا جلياً أن احتدام المواجهة بين روسيا وأميركا والمعسكر الغربي، قد أخذ منحى آخر، ومن الواضح أنه أصبح متعلقاً بثقافات ومفاهيم ومبادئ تعاطي الدول فيما بينها، سياسياً واقتصادياً ومالياً وحتى لجهة احترام حقوق الإنسان، ومدى التزام كل طرف بتنفيذ القرارات الدولية والاتفاقات المبرمة، حسب نصوص القوانين الدولية في حال اندلاع الأزمات.
وبعد شمول العقوبات الأميركية مجمل المرافق الحياتية الاقتصادية والإنتاجية المصرفية والرياضية والإعلامية والإذاعية وحتى محطات وصفحات السوشال ميديا، وتوقيف خط «السيل الشمالي» للغاز، وممارسة السطو المنظم على إيداعات حكومة موسكو خارج روسيا، إضافة إلى مدخرات رجال الأعمال والشركات والكتلة النقدية من الأموال الروسية المودعة في المصارف الغربية، بات من المؤكد أن الحاصل في أوكرانيا عبارة عن سلّم مزود بعتبات أميركية، لبلوغ قمة جبل الجليد الروسي، والعمل بكل الوسائل الغربية لكسر مركز تماسك القمة، توطئة لانهيارها على غرار ما حصل في الاتحاد السوفييتي السابق.
بالنسبة لموسكو، فإن تصاعد المواجهة الحاصلة لم يعد يصنف في خانة الحروب بين الدول، لأن حقيقة ما يدور اليوم هو صراع حام بين غرب مستشرس للحفاظ على بقاء النظام الليبرالي الحالي، المتحكم بسياسات واقتصادات وثروات الدول، وتجييرها لمصلحة إبقاء الهيمنة الأحادية على العالم، وبين روسيا الداعية لاحترام حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم استعمال منابر الأمم المتحدة والجمعية العامة مطية لتأمين مصالح دول بعينها، على حساب إفقار دول أخرى واستعباد وتشريد شعوبها، إضافة إلى ضرورة احترام القرارات والاتفاقات والمواثيق الصادرة عن الشرعية الدولية، ومن هنا يمكننا القول إن الصراع الدائر الآن، قد تعدى الأهداف الروسية المعلنة في أوكرانيا، بعدما تحول إلى عملية تحرر تاريخية من الاستعمار الأميركي الغربي، والتطلع الجدي للبدء بإنشاء تحالفات وتكتلات جديدة، مع دول وأقطاب وازنة ومنتجة، سياسياً ومالياً واقتصادياً، متفقة فيما بينها للتحرر من الاستبداد الأميركي الغربي بحكم العالم.
إذاً المواجهة الروسية- الأميركية- الغربية بلغت نقطة اللاعودة، خصوصاً بعد قرار موسكو بإلغاء التداول بالدولار الأميركي، والبدء بتطبيق بيع الطاقة الروسية بالروبل الروسي الأمر الذي سيترك آثاراً سلبية بل كارثية على هيبة الدولار الأميركي، وبالتالي على اقتصادات الاتحاد الأوروبي.
إن إيجابية العملية التحررية التي تقودها روسيا اليوم، لن تكون محصورة بمستقبل روسيا فقط، إنما ايجابية التحرر ستشمل كل حلفاء روسيا في العالم، مثل الصين وإيران وفنزويلا والمكسيك والبرازيل وكوبا والهند ولاسيما الحليف الإستراتيجي سورية، التي تعاني الأمرّين جراء الحصار الأميركي الجائر ضد شعبها، وحرمانه من أبسط مستلزمات الحياة الكريمة.
لابد من الإشارة إلى أن بعض حلفاء أميركا التاريخيين في دول الخليج رفضوا الأوامر الأميركية، وتحللوا من طلبها بزيادة الإنتاج للطاقة، أولئك تراهم على رأس التلة، بانتظار تحديد الوجهة نحو روسيا، فور انتهاء موسكو من إنجاز مهمتها الهادفة إلى التحرر، وبالتالي فرض واقع أو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب ومتحرر مالياً واقتصادياً.
إن المهمة الروسية في أوكرانيا، ساهمت في كشف المستور، وأسقطت أقنعة مزيفة باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لطالما تلطت خلفها أميركا والغرب، ومن إنجازات المهمة الروسية يمكننا أن نعدد:
* انكشاف مدى تزوير الحقائق في الإعلام الأميركي الغربي بعد حملة التعتيم ومنع الإعلام الروسي من ممارسة دوره الطبيعي.
* انكشاف الجرم الأميركي في نشر الأوبئة بحق الإنسانية، بعد حصول موسكو على وثائق تثبت التمويل الأميركي لمختبرات جرثومية وبيولوجية سرية تعمل لمصلحة البنتاغون، هدفها الإبادة الجماعية ضد شعوب دول، بغرض تسهيل عملية الاستيلاء على الثروات الطبيعية لتلك الدول.
*بروز تشقق في الاتحاد الأوروبي جراء التهديدات الأميركية بضرورة الالتزام وتنفيذ العقوبات على روسيا، الأمر الذي ألحق ضرراً فادحاً بشعوب أوروبا، وبالبنية الاقتصادية فيها، نتيجة مضاعفة أسعار السلع وخصوصاً الطاقة الأمر الذي يهدد بتوقف العديد من المرافق فيها.
*تمرد بعض الحلفاء من الخليج، وفقدان الثقة بأي إدارة أميركية كنتيجة طبيعية لممارسات السطو الأميركي على أموال الدول التي ترفض الانصياع للإملاءات، كما حصل مع أفغانستان وفنزويلا وروسيا.
*بداية نهاية إمبراطورية الدولار الأميركي كعملة مهيمنة على التداول بين دول العالم.
* بداية التحرر من نظام عالمي ليبرالي أحادي القطب استمر خمسة عقود.
* الشروع باعتماد نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، ونشوء تكتلات وتحالفات دولية جديدة متعاونة فيما بينها، متحررة من السطو الأميركي الغربي، وتعتمد على استثمار ثرواتها وازدهار اقتصادها، وتؤمّن لشعوبها النمو والتقدم العلمي والمعرفي بحرية، وتحترم أمن واستقلال الدول والشعوب، وملتزمة بالقوانين والاتفاقات الدولية.
إن إطلاق الرئيس الأميركي جو بايدن ألقاباً كالمجرم والقاتل وآخرها الجزار بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا يمكن وضعها في خانة زلات اللسان، لأن تصريح السيناتور ليندسي غراهام بلغ حد الدعوة إلى اغتيال بوتين صراحة، وهذا ما يفسر الهستيريا التي باتت تتحكم بالنخب الأميركية، خوفاً من بروز نظام عالمي مالي اقتصادي جديد متعدد الأقطاب متفلت من القبضة الأميركية، ما يعني تفكك أميركا مستقبلاً من الداخل، والشروع بإسدال الستار على نظام ليبرالي أحادي، تحكمت أميركا من خلاله بإدارة دول العالم لعقود من الزمن.
إن إغداق أميركا ودول أوروبا بالسلاح والمال على حكومة كييف، هدفه إطالة أمد الحرب لإنهاك روسيا ومنعها من تحقيق أهدافها، ولإظهارها بمظهر المعتدي، ولصرف الأنظار عن إنجازات روسيا في كسر الهيبة وفك الطوق الأميركي الذي كان معداً لروسيا في أوكرانيا، وهذا الأمر يترجم الجنون الأميركي، وهو دليل على مدى شراسة المواجهة الواقعة بين روسيا وأميركا والغرب.
مؤخراً برزت عدة أصوات وتصريحات وتوصيات من مسؤولين رسميين في كل من بريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى، تدعو لإيجاد آلية تفاوض لحل النزاع القائم بين روسيا وأميركا، لتجنب الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة أو حرب نووية.
إن مثل هذه التصريحات والتوصيات أتت متأخرة ومتأخرة جداً، خصوصاً مع بلوغ المواجهة نقطة اللاعودة، وبعد نجاح موسكو بتحقيق أهدافها في دونباس وأوكرانيا، لكن حتى لو سلمنا جدلاً بوجود آلية تفاوض لوقف الحرب، فإن فلاديمير بوتين لن يكون باستطاعته القبول بأي تسوية فعلية، قبل إنهاء ما بدأه من تحرر، ولترجمة المنعطف الفعلي للتاريخ.