سؤال الحياة اليومي، يتداوله الناس فيما بينهم بعفوية مفرطة، إلا أنه يحمل بين جنباته المفهوم العميق الواقع بين الكم والكيف، وعلاقة الظاهرة بالظاهرة، وبشكل أدق الكثرة والنوعية، حيث تعني معادلة أزلية لم تتغير منذ ظهور الوجود، وكلما زاد الكم نقص الكيف، ويستحيل على الإنسان المتعدد الطاقات، ومهما بلغ من القدرات أن يحول الكم إلى كيف. فالميزان العقلي يميل دائماً لمصلحة الكم نظراً لحاجة الكيف إليه في خدماته، وهنا لا بدّ أن أشير إلى أن كل الموجود حولنا ويسعى إلينا هو كم، أكان ذلك زمناً أم مادة، إلى أن يتم استثماره من خلال بذل الجهد الفكري فيه، ومن ثم تحويله إلى ساعة قابلة للتداول، ويتم تنظيمه بالشكل الصحيح ليغدو كيفاً، وإن كل ما نسعى إليه ونترك فيه شيئاً من نتاج الفكر أو اليد هو كيف بعد تقييم نسب فائدته، وإن ترك يبقَ كماً.
مرة ثانية كل ما حولنا كم الزمان والمكان، المواد الخام، الطاقات الكامنة، الفكر الهاجع، كل هذه الموجودات تشكل حالة من التحديات للإنسان المسؤول عنها والمطالب بتحويلها إلى كيف، ويكون ذلك بإضافة فكرة منطقية وعاقلة عليها ووضعه فيها، والغاية إخراجها من وضعها الكمي غير المعرف إلى النوعي بعد إنجازها لتصبح معرفة.
كيف حالك؟ سؤال اعتيادي يستخدمه الإنسان أينما وجد، لكن فلسفته عميقة، وتعني السؤال عن نسبة الجودة فيك، الجودة الصحية والفكرية والعلمية والاقتصادية والإنتاجية هي حالات مركبة، نفككها بالعقلانية، لأن إيجابيتها تكمن في جوهر السؤال، وهنا أقول: إن أي فرد أو مجتمع أو أمة لا تأخذ بالفلسفة كمنهج عمل وأساس لعملها تكون في حالة سكون، وكم تصاب بالشلل في مفاصل الفكر الذي يبقيها ضمن مستوى التخلف أو البدائية الطفولية كحالة الخام الكربوني، إن لم يُصقل يبقَ في حالة اللا فائدة.
لنعترف أنّ مجتمعاتنا تصنف ضمن الكم، وصحيح أن فيها ندرةً من الكيف، إلا أن هذا الكيف منفصل عن واقعه إلى درجة كبيرة، والسبب «الأنا» التي سرعان ما تتضخم لتغدو عبئاً على الكم، وبالمقابل انتشار منظومة الكم بشكل عشوائي وفوضوي في التكاثر والغذاء والشراء والمعتقدات الممتزجة بالخرافة والعرافة، التي تستثمر من أجل الشخصي لا العام، تسقط قيمة الكيف ليغدو حتى الكيف كمّاً.
الكم والكيف منهجان وثقافة ومعرفة، فهمهما أجده من الضرورة بمكان، والمدقق الباحث يعلم تماماً الحاجة لبعضهما، الأديان بتنوعاتها احتاجت الكم، لأن المؤمنين فيها يشكلون الندرة، والكثرة متدينون، كما الأحزاب التي تديرها النخب وتحتاج للمؤيدين والمناصرين والجيوش والإدارات ومكونات الدول، فكما الحياة أوجدت فيها المكملات لاستمرارها كانت عمليات البناء تحتاج إلى المفكرين والقادة والمبدعين والعمال والجنود.
إن هذا يأخذنا لفهم علاقة الكم بالكيف، وعلاقة الإيمان بالأديان، والأحزاب بمؤيديها؛ أي إنه لا يمكن الجزم بأن كل مؤيد مؤمن، بينما المؤمن مؤيد، وصحيح أن الكم يُخضع انتماءه للفوائد التي سيجنيها من دخوله تحت أجنحة الكيف، وبالتالي فإن الكيف يستخدم إغراءه وإغواءه للحصول على مؤيدين له أو مريدين أو تابعين، وإن أفضل ما ينشده أي مجتمع تطابق الكم مع الكيف ضمن عملية الكيف، ليبدأ من خلالها انسياب الجمال والتخلف والإبداع والإنتاج، وأهم من كل ذلك نمو الرضى وتجليه على المجتمع، وإلا تحدث الغربة.
فالكم يغدو غير مفيد إذا كان الكيف منفصلاً عنه وأنانياً، بل أكثر من ذلك يغزوه بفقره الفكري، ويطيح به من أجل إحداث الفوضى غير المفهومة له، لأن الكيف ما كان ليكون كذلك لولا امتيازه عن الكم، بامتلاكه لفائض الوعي الذي يتفوق به على الكم، وبه يديره، فإن لم يحسن ذلك أسقطه الكم، وأذابه فيه، بل أعاده إلى الحضيض، لذلك يجب على الكيف أن يتجه دائماً لتعزيز وتوسيع إدراك أفراد مجتمعه وإكسابهم القدرات والمهارات الجديدة ومساعدتهم على فتح دوائر الخيارات للوصول إلى الأهداف وتحقيق النجاحات المطلوبة.
الكم والكيف يشبهان الآمال والمخاوف وتقارب الحب والكراهية، وجميعها تحضر من عمق العلاقات الاجتماعية ونظم بنائها وموروثاتها الرقيقة «النساء»، اللاتي يتحولن إلى زوجات، هذه الفكرة المجسدة في عمق الظهور الإنساني، والتي غايتها ليس إنهاء الشهوات، إنما الحد منها، لكونها تتحول إلى مطلبية، فالكم لغة مطلبية ممتلئة بالشهوات، كيف ينظمها الكيف؟ كيف حالكم؟.