مع دخول العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا شهرها الثاني، يلاحظ وبشكل جلي، أمران بارزان، الأول هو انتقال المعركة في الحرب الروسية- الأوروبية، من ميدان السياسة والعسكر إلى ميدان الاقتصاد، وتحديدا الغاز والنفط، والثاني مؤشرات تدلل على قرب خضوع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للأمر الواقع، والجنوح نحو فكرة «أوكرانيا حيادية»، تلك الفكرة التي كانت مرفوضة قبل أن تدخل القوات الروسية إلى أوكرانيا، وهذا يقود إلى سؤال طبيعي، ألم تعي كل من أوروبا وكييف أن الأمور سوف تذهب بهذا الاتجاه، وهل فعلاً وصل الأوروبي بالتبعية للقرار الأميركي درجة يفضل مصالح الأخير على مصالحه الخاصة؟
في جردة حساب بسيطة لجميع التصريحات والأخبار الواردة من كلا الضفتين الروسية والغربية، فإن المتابع يلاحظ دون عناء غلبة الطابع الاقتصادي عليها، ويدرك جيداً أن ما تقوم به روسيا في مجال الرد على فرض الغرب عقوبات عليها، يوجع دول الغرب، ويدفع بها إلى الصراخ عاليا، لما تشكله القرارات الروسية المتسارعة من «ضرب تحت الحزام»، وهو ما ظهر في تصريح وزير الطاقة الألماني، أن «مجموعة السبع» أي فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكندا، رفضت طلب موسكو دفع ثمن صادرات الغاز الطبيعي الروسي بالروبل قائلا: «الدفع بالروبل غير مقبول وسنحث الشركات المتضررة على عدم اتباع طلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين».
ولكن، هل بمقدور تلك الدول تحمل تبعات انقطاع الغاز والنفط الروسي عنها إن لم تدفع ثمنهما بالروبل، وهل من خيار ثان يمكنها اللجوء إليه؟ خاصة في ظل إعلان الإمارات والسعودية بأنه لا يمكن سد الفجوة التي سيتركها خروج روسيا من سوق الطاقة، وسياسة العقوبات التي يفرضها الغرب وأميركا على كل من إيران وفنزويلا، البلدين القادرين على سد النقص في السوق العالمية.
من الواضح أن دول الاتحاد الأوروبي أيقنت جيداً أنها المتضرر الأكبر من الإجراءات الروسية بما يخص الطاقة، على خلاف الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما قد يبرر جنوح الساسة الأوروبيين إلى المرونة في التعاطي مع روسيا أكثر من الأميركي، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للنأي بنفسه عن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن الأخيرة تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتحذيره من التصعيد اللفظي مع روسيا، وأن الهدف هو تحقيق وقف إطلاق النار في أوكرانيا أولاً، ثم الانسحاب الكامل للقوات الروسية بالوسائل الدبلوماسية، خاصة وأن فرنسا بدأت فعلاً باستشعار خطر قطع الغاز والنفط الروسي عن القارة العجوز، حيث دعا رئيس الهيئة الفرنسية لتنظيم الطاقة، جان فرانسوا كارينكو، الفرنسيين إلى الاقتصاد في استهلاك الكهرباء والغاز بسبب مخاطر انقطاع الإمدادات في الشتاء المقبل.
الأمر الثاني اللافت للانتباه، إعلان الرئيس الأوكراني استعداده لمناقشة وقوف بلاده على الحياد وعدم التسلح النووي، شريطة الحصول على ضمانات أمنية من روسيا خلال المفاوضات، وهو ما فسره الكثيرون على أنه خضوع للأمر الواقع، وربما ذلك نتاج يأسه من الحليف الغربي والـ«ناتو» بقوله إن «شركاءنا الغربيين لم يطبقوا العقوبات بشكل كامل لفصل النظام المصرفي الروسي عن نظام سويفت، وحظر الدول الغربية للنفط والغاز الروسيين لا يجب ربطه باستخدام موسكو للأسلحة الكيميائية»، خضوع أكده مستشاره بالأمس حين أعلن أن كييف تريد وقفًا لإطلاق النار وانسحاب القوات الروسية، بحيث يمكنها أن تبقى في دونباس.
تداعيات الحرب في أوكرانيا تجلجل في العالم برمته، بما يهدد بحدوث مجاعة، وتبقى محاولات الغرب للهروب من ورقة الضغط الروسية، المتمثلة بالطاقة، ضرباً من الجنون، وسط انسداد أفق الحلول الأخرى المتاحة أمامه، فهل يخضع الغرب التابع لأميركا، لشروط موسكو بضغط الحاجة والمصلحة الشخصية، لتجنب الانهيار في صناعته، وعدم الوصول إلى اليوم الذي يبدأ فيه بوضع جدول لتقنين الكهرباء في مدنه «المدللة»؟