يمكن لجردة حساب تهدف إلى استبيان حجم النجاحات قياساً لحجم العثرات بعد مرور شهر، أو يزيد، على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن تفضي سريعا إلى ترجيح كفة الأولى على حساب الثانية، دون أن يعني ذلك أن الأخيرة لم تكن في بعضها من النوع الذي يجب أخذه بعين الاعتبار، بل إعادة الحسابات فيما يخصه، خصوصا أن جزءاً منه كان، كما يبدو، خارج الحسابات الروسية، أو على الأقل لم يكن داخلا فيها بالدرجة التي يستحقها تأثيره.
رزمة النجاحات تنقسم إلى شقين ميداني عسكري، وآخر سياسي، ثم يتبعهما نجاح اقتصادي جزئي يتمثل في الصمود النسبي للاقتصاد الروسي الذي سجلت فيه قيمة الروبل تراجعا ملحوظا لكن مع السيطرة على أسعار السلع الأساسية في السوق الروسية، في الشق الأول العسكري يمكن القول إن الجيش الروسي استطاع تحقيق سيطرة شبه تامة على إقليم دونباس والوصول إلى محيط العاصمة الأوكرانية كييف بمسافة لا تزيد على 10 كيلومترات من شمالها و٢٥ كيلومتراً على محور تقدم القوات الروسية الجنوبي، وفي الغضون نجحت القوات الروسية في إخراج القوات الجوية الأوكرانية من المعركة بشكل شبه تام أيضاً، وفقاً لبيان نشرته وزارة الدفاع الروسية قبل أيام بالتزامن مع تقديرات غربية لا تبتعد كثيرا عن مضمون البيان سابق الذكر، وكنتيجة لما سبق باتت خرائط السيطرة العسكرية المرتسمة بعد نحو شهر أو يزيد تشير إلى عزل أوكرانيا عن نقاط تواصلها البحري لتصبح بلداً قارياً لا موانئ بحرية له، كما وتشير أيضا إلى نجاح روسي مهم تمثل في إفشال محاولات بناء «الفيلق الأجنبي» الذي تعرضت مواقع تجمعه لضربات صاروخية أرادت موسكو من خلالها القول إن الانغماس الأوروبي المباشر في الحرب أمر ممنوع، والفعل، أي الضربات الصاروخية، أعادت قوالب الدور الغربي إلى بداياتها التي أعلن عنها مع بدء العملية العسكرية الروسية، وفي حينها سارع «ناتو» للإعلان عن رفضه الانخراط بشكل مباشر في النزاع لكن ذلك لم يمنع من البحث عن شقوق في نسيج ذلك الرفض، والعودة، أي عودة القوالب، قادت من جديد لحصر الدور الأوروبي في سياق تقديم دعم لوجستي بالعتاد والمال فحسب.
سياسيا نجحت موسكو في شد بكين نحو خنادقها بشكل تدريجي، وعلى الرغم من أن الأخيرة تبدو حذرة، وفي الأمر ما يدعو إليه، تجاه تقديم أي دعم عسكري من أي نوع كان، بل تجهد في تحاشي تقديم أي نوع من الدعم الاقتصادي، إلا بما تسمح به التحولات الحاصلة التي أفرزتها الحرب تباعا، إلا أن مواقف بكين راحت تتبلور فتصبح أكثر إسنادية للموقف الروسي خصوصا بعد التحشيد الغربي الذي شهد ذروته يوم الخميس 24 آذار الجاري، وفيه تحولت بروكسل بقممها الثلاث، قمة الأطلسي والقمة الأوروبية وقمة السبع، التي انعقدت فيها إلى «وكر» كان السؤال الأهم المطروح أمام المؤتمرين هو: ما السبيل إلى محو هذا «الشرق الروسي» عن خريطة القوة العالمية؟!
لقد نجحت موسكو أيضاً في تثبيت علاقاتها مع كل من إيران والهند والبرازيل وفنزويلا عند تماسكها الذي كانت عليه قبل الحرب، مع تسجيل «حياد» طغى على مواقف بعض الدول التي اشتهرت بتحالفاتها مع الولايات المتحدة مثل بعض دول الخليج وكذا إسرائيل، والفعل الأخير يمكن اعتباره نجاحاً روسياً حتى وإن كان التراصف السابق عند هذه الدول قد جاء لاعتبارات عديدة خاصة بها ناهيك عن لحظها لميزان قوى بدا مرشحا للاختلال بدرجة تستدعي تلمس المواقف بحذر أكبر.
رزمة المكاسب السياسية لا تقف هنا، بل تذهب نحو المتغيرات الكبرى التي شهدها الموقف الأوكراني بعد 24 شباط الماضي، فهذا الأخير بعد مرور شهر على هذا التاريخ الأخير بات أقرب للموافقة على الشروط الروسية التي أعلنتها موسكو قبيل أن تندلع النار، وكييف اليوم، بعد قراءتها لخريطة الانقسامات والتحالفات التي استولدها فعل النار، باتت على يقين من أن «الخيار الأطلسي» لن يكون سوى خيار لإدامة أمد فعل النار سابق الذكر، وأن حياد أوكرانيا هو الوحيد القادر على ممارسة فعل الإطفاء الكفيل بإخماده، ناهيك عن مؤشرات عدة تشي بأن كييف اليوم مستعدة للاعتراف بروسيّة شبه جزيرة القرم، وبالوضع الخاص لإقليم دونباس، ولربما شكلت هذي المتغيرات فرصة لإحداث تقاربات يمكن البناء عليها في المفاوضات بين الطرفين التي بدأت تجري في تركيا.
في العثرات التي يمكن وصفها بالقليلة، لكن بعضها وازن، تبدو المعوقات التي برزت من خلال ضعف الإمداد اللوجستي للقوات المهاجمة، ناجمة عن اعتبارات لا تتعلق، فقط، بالقدرات التي يمتلكها الجيش الروسي، وإنما لعبت فيها عوامل أخرى دوراً مهماً، ولربما كان أبرزها التقديرات غير الدقيقة للمناخات المحيطة بالقوات الروسية المهاجمة، والراجح الآن أن ثمة تقديرات كانت تقول، قبيل بدء العمل العسكري، إن تلك المناخات لا تميل نحو أن تستطيع تشكيل جبهة إسناد قوية للجيش الأوكراني، ولربما غابت الدقة هنا بفعل غياب أسئلة كبرى، كان من الممكن للإجابة عنها أن تفرز معطيات مهمة، من نوع: لماذا العداء لروسيا في الجمهوريات السوفييتية السابقة التي انضوت تحت راية «ناتو» وبما يفوق نظيره عند دول عربية منضوية تاريخيا تحت تلك الراية؟
ثاني العثرات تمثل في فشل الإعلام الروسي في مجاراة الحرب الإعلامية والنفسية التي شنها الغرب باستخدام ماكينات إعلامية عملاقة لم تقم اعتباراً لأي مهنية في سرد التقارير، ولا لأي «قيم» أو «عراقة» كان الإعلام الغربي يجهد في تقديم نفسه على أنه متمسك بهما، بل إن كثيرا من المسؤولين الغربيين كانوا قد ضبطوا متلبسين وهم يمسكون بـ«الميكرفون» بصورة تشبه بممارسة فعل «مراسل» لقناة رخيصة تسوق لمن يدفع أكثر.
كنتيجة يمكن الجزم بأن كم «الطرائد» المتراكم في الجعبة الروسية في غضون شهر يفوق عدد السهام التي فقدت من تلك الجعبة، فبعض السهام أصاب طريدتين أو أكثر.