من دفتر الوطن

بين التبخيس والتقديس

| حسن م. يوسف

أهم ما يميز الأمم الحية هو أن جلّ جهود أبنائها تبذل في مجال التنافس لا في مجال التنازع، وما يوجع القلب هو أننا نحن أبناء الشمس في هذه المنطقة من العالم نادراً ما نتنافس، وغالباً ما نتهاوش ونتنازع ونتغالب، بشراسة الكائنات البدائية ودواب البرية، وفي كثير من الأحيان نسمح لأنفسنا أن نتجاوز خطوط الأخلاق الحمراء في أدائنا، فنمارس تبخيس من يختلفون معنا وعنَّا، بطرق لا تفتقر إلى النزاهة وحسب، بل تفتقر إلى العقل والمنطق أيضاً.

فإذا ما اختلفنا مع شخص حول موقف سياسي أو فكري غالباً ما نقوم بتبخيسه من خلال اختزاله إلى بعد واحد من شخصيته، عبر موقف صغير، أو مقولة مجزوءة له. وقد نتجاوز التبخيس إلى التشنيعات الأخلاقية من خلال تضخيم العيوب الصغيرة وإشاعة الاتهامات القبيحة المفبركة. وقد فكرت طويلاً بهذه الظاهرة المرضية فتبين لي أن الهدف من تبخيس الآخر هو تمجيد الذات، بشكل غير مباشر، وكأن الكاتب الباخس البائس يستجدي إعجاب القارئ، ولسان حاله يقول: انظروا ما أسوأ خصمي وما أبهاني أنا! والمفجع أن بعض من يمارسون التبخيس هم من المتدينين المتشددين رغم أن اللـه يقول في محكم تنزيله «ولا تبخسوا الناس أشياءهم»!

قبل قرابة أربعين عاماً حذرني أحدهم من الدخول بين المتحاربين لأنني بذلك أجازف بأن أكون أول الضحايا، فأجبته في زاوية نشرتها في جريدة تشرين: عندما يتحارب أهلي يكون الموت المبكر نعمة من السماء.

يعلم متابعي أنني لم أدع الكمال يوماً، وأنني كنت ولا أزال، أحاول الانشغال بعيوبي عن عيوب الناس، غير أني تعرضت رغم ذلك للعديد من عمليات التبخيس منذ بدء الحرب التي تشنها الفاشية العالمية على سورية بالتعاون مع أدواتها الإقليمية وامتداداتها المحلية، لأنني انحزت منذ البدء لسورية الحاضرة في قلبي وعقلي وأعلنت ولائي لدولتها ولوحدتها شعباً وأرضاً. صحيح أن موقفي كان واضحاً تماماً دون لبس، إلا أنني لم أكن طبَّالاً في الحرب، لذا وصفني المتطرفون مِمَّن أقف على ضفتهم بأنني «رمادي»، ووصفني من يقفون على الضفة الأخرى بأنني «عميل ومطلوب». وبما أنني أراهن على عقل القارئ ونزاهته، فقد كان ردي الدائم على من قاموا بتبخيسي، هو الصمت.

قبل أيام نشر صحفي على الضفة السورية الأخرى مقالاً عني بعنوان حسن م يوسف: «ليتني كنت شجرة» قال فيه: «لا مشكلة لدى الكاتب السوري حسن م يوسف مع المسؤولين في بلاده سوى قضية شروط الدعم، التي لم تشمله، وهو ما قد يؤدي إلى ابتعاده عن ممارسة أعماله، نتيجة ارتفاع أسعار النقل، أي ما يعني جعله رهينة التقاعد الذي لا يريده».

أحزنني تبخيس هذا الشاب للكلام الذي قلته في الحوار الذي أجرته معي الإعلامية غالية طباع على أثير المدينة إف إم! لأنه ذكّرني بشاب في مثل عمره، كان يبالغ في امتداحي وهو الآن يبالغ في تبخيسي مؤكداً بذلك صحة قول أفلاطون: «من مدحك بما ليس فيك من جميلٍ، وهو راض عنك، ذمَّك بما ليس فيك من قبيح وهو ساخط عليك».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن