من سورية إلى أوكرانيا، ما بعد الحرب، رغم أن المصطلح يشير إلى مرحلة زمنية محددة تلي انتهاء الحرب بمفهومها العسكري التقليدي، إلا أنه يمكن استخدامه للدلالة على المرحلة الحالية من الحرب-الأزمة في سورية، إذ على الرغم من أن حالة الحرب لا تزال قائمة بأشكال مختلفة، سواء بالوجود العسكري غير الشرعي لقوات أجنبية على الأرض السورية أو من خلال الحصار والعقوبات الاقتصادية، إلا أن الحرب بمفهومها العسكري التقليدي قد انحسرت بشكل كبير، وهي متوقفة منذ أكثر من عام، سانحة المجال ربما للحلول غير العسكرية، في ظل تطورات إقليمية ودولية متسارعة، جعلت من التفكير بسورية ما بعد الحرب أمراً ضرورياً.
إن الحرب-الأزمة التي تعصف بسورية منذ عام 2011 وحتى الآن، وإن كانت عدوانية وذات أهداف استعمارية، سعت لضرب الدولة كوجود، إلا أنها في الوقت نفسه شكلت «حدثاً كاشفاً» عن عمق الأزمات الداخلية المركّبة التي تعاني منها سورية، وهو ما يتطلب حالياً استباق الزمن، وبدء مرحلة جديدة قوامها التفكير الإستراتيجي بسورية ما بعد الحرب، من خلال إعادة التفكير ببنية الدولة ككل متكامل، على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الهُوياتية منها بالتحديد، ومختلف الجوانب الأخرى المؤثرة.
ويبرز في هذه المرحلة سؤال مركزي: من أين نبدأ؟ فهل نبدأ من مرحلة الحرب ذاتها؟ أم ندخل في قطيعة تامة مع مرحلة الحرب ونبدأ مما بعدها؟ أم ننزع مرحلة الحرب من تاريخنا ونعود للبدء مما قبلها؟
تبقى الإجابة عن سؤال: من أين نبدأ؟ رهينة واقعية السوريين وعقلانيتهم في النظر إلى الحرب-الأزمة.
أبدى كثر من السوريين وما زالوا يبدون، واقعية وعقلانية جيدة لفهم واقعهم، إذ يحيلون واقع الحرب-الأزمة التي يمرون بها إلى مجموعة من الأسباب الداخلية والخارجية المركبة والمعقدة التي أنتجت واقعاً يحمل الوصف ذاته، أي مركباً ومعقداً.
وبما أن التوصيف موجود فإن التفكيك سهل، أي تفكيك الأسباب وفرزها إلى داخلية وخارجية ومن ثم نزع الألغام وردم الحفر وسد الثغرات، لتأهيل بنية صلبة متماسكة قابلة للبناء وفق الأولويات والإمكانيات.
انطلاقاً مما سبق فإن الحرب-الأزمة ورغم سلبياتها، تقتضي النظر بإيجابية إليها كفرصة لإعادة البناء، بناء الدولة الحديثة المتموضعة في عالم جديد، تم البدء برسمه من سورية وصولاً إلى أوكرانيا اليوم، فالدول غير القانعة في النظام الدولي، بدأت برسم معالم نظام عالمي جديد، تمثل سورية حجر أساس فيه، باعتبارها شكلت مدخلاً للحلفاء من موسكو إلى بكين وطهران وغيرها من الدول، للتعبير عن عدم قناعتها والانطلاق نحو تحقيق عالم أكثر عدلاً واستقراراً.
إن بناء نظام عالمي جديد له إيديولوجيته ونظامه الاقتصادي ومواثيقه وعلاقاته الدولية الجديدة القائمة على الاحترام المتبادل، يجعل من التفكير بإعادة بناء الدولة من الأولويات في سورية، باعتباره استكمالاً وترسيخاً للنصر الذي حققته دمشق بقيادة الرئيس بشار الأسد على الإرهاب وداعميه، وطريقاً نحو فك الحصار السياسي والاقتصادي عن سورية، هذا من جانب، كما أنه ضرورةً ملحةً لانخراط سورية في النظام العالمي الجديد قيد التشكيل.
ينطلق البناء الجديد للدولة من الخصوصية السورية ذاتها، باعتبار سورية صلة وصل بين الشرق والغرب فهي ملتقى القارات الثلاث، أوروبا وآسيا وإفريقيا، هذا من جهة، وباعتبارها جزءاً أساسياً من المجال الحيوي للإمبراطورية الأوراسية من جهة أخرى، والتي يمثل البعد الهُوياتي أساساً للصراع الدائر بين الغرب والشرق في أوكرانيا، أي بين القوى البرية، روسيا والصين وإيران والهند، وقيمها، والقوى البحرية الجديدة الممثلة بالولايات المتحدة الأميركية وقيمها، استناداً إلى ما يشير إليه ألكسندر دوغين منظّر الأوراسية الجديدة.
لقد مثلت سورية بصمودها لأكثر من عقد من الزمن في وجه الحرب عليها، مقاومة لا مثيل لها، إذ صمدت في وجه الأثر الذي يريده الغرب عبر الكولونيالية الجديدة في تشكيل الدولة الحديثة، وفي وجه تأثير الحداثة وتحقيق الهيمنة العالمية عبر الاختراق والتبعية، تبعية الدول النامية والمتأخرة للغرب.
تبقى مسألة إعادة بناء الدولة أمراً ليس سهلاً، خصوصاً أن البناء يجب أن يبدأ من الجانب المجتمعي والثقافي الأكثر تضرراً من الحرب، وعلى اعتبار أن الجانبين السلطوي والقانوني للدولة قائمان، فإن من عوامل تسهيل إعادة البناء، العمل على أمل بناء دولة حديثة متطورة مستقلة.