على الرغم من أن القرار الأممي ذي الرقم 2254 الذي بات الكل يجمع على أنه الدرب الأوحد لإيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، كان قد أقر بوجوب أن تكون هذي الأخيرة بـ«ملكية وقيادة سورية»، إلا أن جولات جنيف التي أتمت حلقتها السابعة حتى الآن كانت كلها تثبت أن الإقرار صوري، وبمعنى آخر كان ذلك الإقرار لبوساً يراد من خلاله الإيحاء بأن «الخارج» يلعب دوراً أسنادياً للتوفيق بين السوريين المتخاصمين، على حين أن الممارسات كانت كلها تؤكد أن لذلك الخارج صورة لـ«سورية الجديدة» يريد الوصول إليها، وخطوطاً حمراً كان قد ارتسمها في مسار تشكيل تلك الصورة.
انعقدت على مدى خمسة أيام بين 21 و25 آذار المنصرم الجولة السابعة من اجتماعات «اللجنة الدستورية» في جنيف، وفي المحصلة كانت النتائج تقول باختصار أن ثمة إيعازاً خارجياً كان قد صدر بوجوب العودة إلى المطارحات الأولى التي شهدتها الجولات الثلاث الأولى التي اشتهرت بالتشنج البادي فيها، كان الإيعاز باختصار يقول «إلى الوراء در»، ومن المؤكد أن النتائج السابقة الذكر كانت قد تأثرت بدرجة كبيرة بالسخونة الحاصلة بين روسيا من جهة وبين الغرب من جهة أخرى في أعقاب اندلاع الأزمة الأوكرانية أواخر شهر شباط المنصرم، إذ لطالما استطاعت تلك السخونة جب كل النيران الأخرى التي كانت تلعب دوراً في مسارات التسوية السورية، ومن الملاحظ أن هذي الأخيرة كلها راحت تتقولب في مسارات وسياقات تستطيع من خلالها ملاقاة النار الكبرى، إما للاستثمار فيها، أو لتجنب اللهيب الناجم عنها، والفعل، أي النتائج المستحصلة، كان متوقعاً قياساً لكل تلك المعطيات وهذا ما يثير تساؤلات عديدة حول إصرار المبعوث الأممي غير بيدرسون على عقد تلك الجولة في هذا التوقيت الذي لم يكن موفقاً بالتأكيد.
في غضون الأيام الأربعة الأولى قدم كل من الوفود الثلاثة، كل على حدة، ورقة عرض فيها رؤيته التي يراها خادمة لمشروعه، وفي الوقت الذي كانت فيه الورقة المقدمة من الوفد الحكومي تركز على «رموز الدولة» معتبرة أن «المساس بنظام الحكم السياسي عبر استخدام القوة، أو التهديد بها، أو التحريض عليها، أو التشجيع على أراضي الدولة، والتواصل مع جهات معادية والتعامل مع جهات معادية، والتعامل مع أي طرف خارجي بأي طريقة تضر بالمصالح الوطنية يدان بتهمة الخيانة العظمى»، كانت ورقة «هيئة التفاوض العليا» الممثلة للمعارضة السورية تذهب نحو طرح يركز على «أساسيات الحكم» التي جاءت متناقضة في مفاهيمها مع المفاهيم الواردة في ورقة «رموز الدولة» المقدمة من الوفد الحكومي آنفة الذكر، على حين كانت ورقة «المجتمع المدني» تقدم تصوراً عنوانه «هوية الدولة» التي يمكن القول إنها كانت «إيجابية» بشكل عام، قياساً على أنها أكدت ضرورة الإبقاء على اسم «الجمهورية العربية السورية»، وأنها «جزء من الوطن العربي» وأن «الشعب السوري جزء من الأمة العربية»، إذ إن من المؤكد أن نفي صورة العروبة عن الكيان السوري يمثل مقدمة لتفتيته وتلاشي أجزاؤه، ثم أن العروبة هوية يعرفنا بها الآخرون، وكينونة منتجة للخيارات التي تفرضها وقائع الجغرافيا والتاريخ، ولكي لا يوسم هذا الموقف بـ«التعصب القومي» نقول: إن تكريس الهويات الخاصة، التي وسمها رئيس الوفد الحكومي أحمد الكزبري في معرض رده على طروحات الوفد المعارض، بـ«ما دون وطنية»، سيؤدي حتماً وخصوصاً في ظل غياب «اللاصق» الاقتصادي إلى تنامي النزعات «الانفصالية»، والمؤكد أن الدستور إذا ما احتوى على أي إشارة، أيا تكن تلاوينها، تصب في ذلك الاتجاه، فإن ذلك سيشرعن تلك النزعات التي يجد الخارج في شرعنتها وسيلة لإضعاف الكيان السوري الذي عانى منذ نشوئه من تقطيع أوصاله تارة بتوافقات دولية وتارة أخرى باستخدام القوة العسكرية، بينما المحاولة هذه المرة تعمد إلى استخدام «مطية» داخلية تكون أقل عبئاً، وتكلفة، من سابقتيها.
كانت الأصوات المعارضة التي تناثرت هنا وهناك، ما بعد الإعلان عن نهاية الجولة السابعة الذي أشار إلى صفر نتائج وصفر تقدم، وفحوى دعواها تشير إلى وجوب «تعليق مسار اللجنة الدستورية، والعودة للتمسك بالقرار 2254 بكل فقراته»، كانت تلك الأصوات في عمقها تحاول استعادة طيف «حلم» قديم ما انفك يراودها في الحلم وفي اليقظة، وهو الذي يمكن اختصاره بشعار «إسقاط النظام» الذي رفعته المعارضة المنضوية اليوم تحت اسم «هيئة التفاوض العليا» منذ عام 2011 والذي خبا بريقه بدءاً من عام 2016 ما استدعى تغييراً في الشعارات والممارسة، فهذي الأخيرة، أي معارضة الاستقواء بالخارج، التي أيقنت بطلان الرهان على «العسكرة»، وأيقنت أيضاً خطأ الرهان على سراديب السياسة التي كانت تجهل مسالكها لجعل ذلك الرهان واقعاً، بات لزاماً عليها، ما دام الفعل، أي الرهان، بمثل وسيلة وحيدة للبقاء، ووسيلة وحيدة للإحساس بالوجود الذي تقول كثير من المؤشرات أنه بات بحكم المتلاشي ذاتياً، ومستمر بحكم حالة الاحتياج الخارجي فحسب، الأمر الذي قاد اليوم، وسيظل يقود، إلى الرهان على إمكان إحداث «اختراق دستوري» من شأنه أن يعيد للحلم مشروعيته.
فشلت جولة جنيف السابعة من حيث إنها سجلت حالاً من المراوحة إن لم يكن عودة إلى الوراء، ولا كان مقدراً لها أن تحقق أي تقدم في ظل استقطاب دولي حاد نشأ بفعل اندلاع الأزمة الأوكرانية التي راحت المعارضة تحاول الاستثمار فيها انطلاقاً من الافتراق الحاصل بين موسكو وواشنطن اللتين كانت تفاهماتهما في السابق تشكل مناخات إيجابية كان من الممكن لها أن تشكل وديان تلاق، و«جبيرة» للجرة السورية المكسورة، ومن الراجح، والحال هكذا، أن تفشل الجولة القادمة، التي لم يحدد موعدها، ولربما جولات أخرى قادمة، ستكون على موعد مع النتيجة عينها، فطيف الحلم الذي عاشته المعارضة السورية خلال الأعوام 2011 – 2015، لا يزال يعاود مخيلتها، والطيف يلوح في الأفق كلما بانت تباشير حدث من الممكن له أن يؤثر سلباً في مسارات التسوية السورية.