ثقافة وفن

رمضان مدرسة دينية واجتماعية وأخلاقية

| أنس تللو

حين يأتي شهر رمضان يتناسى البعض أن هذا الشهر له على الناس أفضال، منها أنه يقدم للفقراء والمحتاجين زاداً وطعاماً، ومنها أنه يقدم للصائم راحة نفسية وجسدية كبرى لأنه يريح الجهاز الهضمي من عناء الأحد عشر شهراً الماضية.

وهم في تناسيهم هذا يخالفون الفطرة السليمة للنفس البشرية، فبدلاً من أن يهيئوا لرمضان صفاء ذهنياً وخلوة نفسية وراحة جسدية، يهيئون له زاداً وفيراً كثيراً وحلويات متعددة غنية وموائد تفتخر بأطايب أنواع الطعام؛ حتى ليخالُ الناظر وكأن الناس قد صاموا أحد عشر شهراً وفي رمضان حان موعد الإفطار.

حركة الأسواق

من هنا فإن حركة الأسواق تشتد بدلاً من أن تتراجع، وحدة الازدحام تتزايد بدلاً من أن تخفّ… هذه هي العادات والتقاليد في هذا الشهر الفضيل الذي لا يعرف معناه ولا يدرك فحواه إلا القلة القليلة النادرة.

شهر من شأنه أن يريح جهاز الهضم لدى الإنسان، ذلك الجهاز الذي أصابه التعب على مدار أحد عشر شهراً ماضياً.

شهرٌ يخالُ المرء أن حركة الأسواق فيه سوف تتراجع وأن حدة الازدحام فيه سوف تخف… وأن زحمة الشراء سوف تتناقص… إلا أن العادات والتقاليد تؤكد لنا نقيض ذلك.

العادات تؤكد أن شهر رمضان يعتبر موسماً كبيراً جداً للمحال التجارية ولاسيما محال الأطعمة والمواد الغذائية التموينية.

تستعد المحال التجارية لاستقبال رمضان بتزيين الواجهات بالتمر هندي الممزوج بماء الورد لصنع الشراب اللذيذ.. كما يقوم أصحاب هذه المحال بتهيئة العرقسوس والتمور ورقائق قمر الدين.

التسابق للشراء

وأما في الأسواق فترى ازدحاماً كبيراً جداً… الناس تتراكض وتتدافع تريد أن تلحق نفسها بشراء (مونة رمضان)؛ والمونة هنا هي البهارات والمنكهات والأرز والبرغل والفريكة والأجبان والألبان… يتراكضون نحو شرائها وكأن المحال ستغلق أبوابها طوال شهر رمضان.

وللحلويات مكانة

أما محال الحلويات؛ فحدث ولا حرج، صحيح أن الصائم بحاجة إلى قطعة حلويات يومياً ولكن ليس بتلك الوفرة والكثرة… والعجيب حقاً أن معظم الناس ينصرف همه الأوحد إلى الحلويات اليومية، وكأن رمضان هو شهر الحلويات.

كما تنشط أيضاً محال بيع الملابس الجاهزة مثل الأحذية والمعاطف والقمصان… ومما يذكر أنه في الماضي كانت هناك كارات رمضانية خاصة يزداد نشاطها قبل رمضان وفي أثنائه مثل الكوَّى ومحال تفصيل الطقوم وتفصيل الأحذية وصناعة الطرابيش.

أما في البيوت فإن بعض واجهاتها وشُرفها تزدان بعبارات الترحيب المزينة بالأضواء والتي يكتب عليها (رمضان كريم ــ أو أهلاً بالشهر بالفضيل…) وعادة ما تقوم النساء بالتعزيل والتنظيف وكأن رمضان ضيفٌ أنيقٌ رقيق أو مفتش صارمٌ دقيق سوف يحضر للبيت يبحش في الزوايا ويكشف الخفايا.

الأبعاد الاجتماعية

شهر رمضان مدرسة اجتماعية كبرى، ترقى بالروح وتجعلها تتغلب على الجسد، وتسمو بالنفس وتحملها على التعالي عن الصغائر… مدرسةٌ يشعر من خلالها الصائم بفيض من الارتياح يسود نفسه، ويتزايد هذا الارتياح حين يشعر بأن صيامه يدفعه للإحساس بجوع من لا يملك ثمن الطعام.

لا قيمة اجتماعية ليوم صيام ما لم يذكرنا بمن لا يملك ثمن الطعام… ذلك الفقير الذي يصوم الأشهر كلها.

ولا قيمةَ لهذه التذكرة ما لم ينسحب تأثيرها في كل الأشهر والأيام على مدار العام.

ولا قيمة لهذه التذكرة ما لم تدفعنا إلى الاهتمام بهذا الجائع البائس.

في رمضان يُفترض أن يصبح الفقيرُ سيداً على الأغنياء يأتمرون بأمره.

حين نتحدث عن تقاليد رمضان الشعبية التراثية؛ وعن الموائد الرمضانية العامرة وعن الحلويات الرمضانية فإننا لا نقصد أن هذه الموائد يجب أن يتم إعدادها من أجلنا.

يُفترَض أن الصائم يبالغ ويُكثر في إعداد أنواع الطعام في رمضان لأنه يعرف أن الفقراء سيستغلون تلك الحالة الوجدانية الكبيرة التي يعيشها من جرَّاء الصوم ؛ تلك الحالة التي ستجعله (يفيض) بالعطاء، و(ينغمسُ) في الكرم، فيمدُّ على مائدته أنواع الطعام الكثيرة ترقباً لتلبية حاجات الفقراء الذين سيقومون بدق الأبواب قبيل الآذان بقليل… وهو الموعد الذي تجيش فيه رغبة الإنسان الغني الملحة للبحث عن فقير يقدم له الطعام، وذلك بعد أن ذاق طعم الجوع طوال النهار.

شهر الإحساس

في رمضان يجب أن تنقلب الآية كما يقولون، إذ يُفترض أن الإنسان الصائم الغني صاحب المال الوفير هو الذي يبحث عن الفقير الحقيقي ليطعمه في رمضان… وليس الفقير هو الذي يركض وراء الإنسان الغني.

وإلا فلا قيمة ليوم الصيام… ولا فائدة ترجى من هذا الجوع والعطش.

نحن نتفاخر بهذه الأنواع الكثيرة من الطعام على الموائد الرمضانية لأن رمضان هو شهر (الخير).

رمضان شهرُ الخير وليس شهرَ الطعام.

الصائم الحقيقي لا يطمئن ولا يستقر ولا يهنأ إلا حين يلبي حاجة الفقير.

وحين يصدحُ صوتُ آذانِ المغرب فإن الفقيرَ يفرح لأنه على موعد مع هذا الفيض الكبير الذي تفيض به قريحة الأغنياء في هذه اللحظة.

إذا صام الإنسان في رمضان يفترض أن يتناول عند الإفطار قدراً قليلاً من الطعام، وألا يحمِّل معدته فوق طاقتها، حتى إذا ما وقف ليصلي صلاة التراويح وقف خفيفاً نشيطاً لا يشكو ألماً ولا يعاني تخمة شديدة.. هذا هو الصيام الحقيقي، وهذا ما يحقق المعاني السامية من هذا الشهر الفضيل.

شهر العمل

أما أن يُمضي الصائمُ النهار نائماً، ثم يمد عند الإفطار مائدة تكفي لـعشرين شخصاً… ويبدأ بالتهام الطعام اللذيذ، ويستمر بذلك أكثر من ساعة أو ساعتين وهو يتمتع بما (لذَ وطاب)؛ فإن هذا الصيام لابد من أن يعطي مفعولاً عكسياً على النفس والجسم معاً.

ولا يفوتني أن أشير إلى أن الصيام لا يصح إلا إذا ترافق معه (الصوم).

وما الفرق بين الصوم وبين الصيام.

في اللغة العربية؛ الصيام هو امتناع عن الطعام، والصوم هو امتناع عن الكلام، فالصيام للمعدة يمنعها عن الطعام والشراب والصوم للسان يمنعه عن الغيبة والنميمة وتصيد أخطاء الآخرين. وإن لم يكن الأمر كذلك فهذا ليس صياماً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن