ثقافة وفن

رشاد قصيباتي مصور الطبيعة بعفويتها وبساطتها … أول فنان سوري يدرس الفسيفساء أكاديمياً… من فلورنسا إلى روما رحلة في التصوير والدراسة في ظل الحرب

| سعد القاسم

كثيراً ما جمع الكتّاب بين اسمي رشاد قصيباتي (1911-1990) ورشاد مصطفى بحكم أنهما ولدا في العام ذاته، وتبنى كلاهما الأسلوب الواقعي. وربما أيضاً لأنهما يمتلكان الاسم الأول نفسه الذي يستدعي الآخر المماثل. غير أن مسيرة حياة كل منهما تختلف إلى أبعد الحدود عن مسيرة الآخر.

الفن مكان التجارة

ففي حين لقي رشاد مصطفى تشجيعاً من أبيه دفعه لتطوير مهارته الفنية اعتماداً على نفسه (كما ورد في الحلقة الماضية) فإن رشاد قصيباتي ولد في حي القنوات بدمشق القديمة وكان توجهه نحو الفن مستغرباً للغاية في عائلة تعمل بالتجارة، وقد وضعه هذا في مواجهتها ومواجهة محيطه الأوسع، الذي كان يعتبر الفن التشكيلي عملاً غير مضمون المستقبل، ولا يحقق لممتهنه دخلاً جيداً. ويذكر ممدوح قشلان في نص ضمن الكتاب الرابع (والأخير) من سلسلة (فنانون تشكيليون سوريون) الصادر عام 1998 أن رشاد قصيباتي قدم تضحيات كبيرة، وتنازل عن جميع المغريات في سبيل إعداد نفسه عن طريق الدراسة المتخصصة على نفقته الخاصة خارج البلاد، واختار إيطاليا مقصداً له. حيث وصل إليها عام 1936، والتحق بمعهد الفنون الجميلة في روما مرافقاً صديقه محمود جلال الذي سبقه إليها قبل عامين، ثم انتقل إلى رافينا عام 1939، حيث درس فن الفسيفساء والفريسك. فكان أول فنان سوري يقوم بدراسة فن الفسيفساء، ومن ثم مزاولته، وتدريسه في كلية الفنون الجميلة في بدايات تأسيسها مطلع الستينيات. وقد نشر الفنان حسان أبو عياش صورة له محاطاً بطلابه.

العلم والحرب

اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام الذي انتقل فيه إلى رافينا فلم يستطع العودة إلى بلده، واضطر للبقاء هناك مع مآسي الحرب ومفاجآتها بعيداً عن أهله. ونال دبلوم الزخرفة من أكاديمية الفنون الجميلة الملكية في فلورنسا عام 1940 وبعد فترة نُقل مع قسم من الأجانب إلى مدينة البندقية فينيسيا وهناك انتسب إلى كلية الفنون فيها، ونال دبلوم التصوير عام 1944، وعمل كرسام محترف في فينيسيا حتى عام 1946. ثم نقل مرة ثانية إلى روما واحتجز مع آخرين في معسكر خاص عدة أشهر إلى أن أفرج عنه.

رغم ظروف الحرب في أوروبا كان رشاد قصيباتي يرسم لوحات جميلة عن مواضيعه الثلاثة، المفضلة عنده حتى نهاية حياته: الطبيعة والطبيعة الصامتة والأشخاص، ولما عاد إلى سورية عام 1946 انضم إلى الفنانين الذين سبقوه للدراسة في أوروبا أمثال: محمود جلال وميشيل كرشة ووهبي الحريري وغالب سالم وسهيل الأحدب وآخرين، وبدأ رشاد قصيباتي يشارك بحيوية في المناسبات المختلفة، ويعرض أعماله مع هذه المجموعة. وكان أحد المؤسسين في جمعية محبي الفنون الجميلة، والجمعية السورية للفنون، ورابطة الفنانين السوريين للرسم والنحت. وانضم إلى مرسم (فيرونيز) الذي كان أسسه عدنان جباصيني عام 1941 في دمشق وجمع أهم فناني تلك المرحلة من جيلين متتاليين: محمود جلال وميشيل كرشة وعبد الوهاب أبو السعود ومحمود حماد ونصير شورى وناظم الجعفري وخالد العسلي وجميل مسعود الكواكبي. كما استضاف المرسم: سعيد تحسين وفاتح المدرس وغالب سالم وألفرد بخاش وسهيل أحدب. وفي وقت لاحق أصبح رشاد قصيباتي عضواً في المجلس الأعلى للعلوم والفنون والآداب. غير أن مشاركته الأهم كانت عام 1950، حين بدأت مديرية الآثار العامة ووزارة المعارف (وزارتا التربية والتعليم العالي والبحث العلمي حالياً) بتنظيم المعرض السنوي في المتحف الوطني بدمشق، ففي مشاركته في المعرض الأول (1950) نال الجائزة الأولى في التصوير مع محمود حماد وصبحي شعيب، وفي المعرض الثاني (1951) نال الجائزة الثانية مناصفة مع نصير شورى.

لوحات وموضوعات

مثل معظم فناني جيل الرواد الأول اتسمت أعمال رشاد مصطفى بواقعية تلامس أحياناً الانطباعية، من دون أن تستغرق فيها أو تلتزم بقواعدها. وقد بقي طوال حياته ملتزماً بأسلوبه الواقعي الذي مر بأربع مراحل تمثل الأولى أعماله التي نفذها في إيطاليا (1937- 1946) وكانت أمينة للمفاهيم الأكاديمية لجهة التكوين المستقر والمتماسك، والعناية بتدرج الظل والنور، مع الحفاظ على الخلفية القاتمة. وتبدأ المرحلة الثانية منذ عودته إلى سورية حيث عمل مدرساً في دار المعلمين، ومن ثم في كلية الفنون الجميلة عام 1961 واتسمت أعماله خلالها بهامش أوسع من الحرية الإبداعية دون التخلي كلياً عن المفاهيم التقليدية وهو ما يبدو واضحاً في وجهته الذاتية self portrait، وفي لوحة ملهمة الفنانين (الآنسة هالة ميداني) التي صورها ضمن تظاهرة أقامتها صالة الفن الحديث عام 1961، وهي من مقتنيات المتحف الوطني بدمشق. وتبدأ المرحلة الثالثة منذ منتصف الستينيات حين قام برحلتي عمل طويلتين إلى السعودية عام 1965 وإلى الكونغو (زائير) عام 1969 لتدريس الفنون فيهما، فبدت الألوان الحارة أكثر حضوراً في لوحته. أما المرحلة الرابعة فتزامنت مع تفرغه للعمل الفني في العقدين الأخيرين من حياته، وفيهما اتجه أسلوبه الواقعي نحو التبسيط وتلخيص الأشكال، والاهتمام بالمساحات اللونية المتقاربة. ومع تبدل مراحل تجربته بقي رشاد قصيباتي مصور الطبيعة بعفويتها وبساطتها– على حد تعبير ممدوح قشلان – وكان يردد: «لا حاجة لتحسس أو التصنع مع الأزهار والورود فهي تقود إلى ألوانها بسهولة وبساطة».

جهود نقابية باقية

أواخر عام 1980 قررت نقابة الفنون الجميلة في عهد نقيبها فيصل عجمي تأسيس فرع في دمشق، وكلفت رشاد قصيباتي برئاسة مجلسه التأسيسي الذي ضم: الدكتور قتيبة شهابي ومجيد جمول وجورج شرابية وبدر الدين أيوبي وحسان أبو عياش. كانت حيوية رشاد قصيباتي مثيرة للدهشة والإعجاب في ذلك العمر المتقدم. وكانت تلك المرحلة هي المرحلة الذهبية في تاريخ الفرع، حيث استطاع المجلس التأسيسي الحصول على موقع (خزان ناظم باشا) في منطقة العفيف ليكون مقراً للفرع. وأسس في حديقته ندوة الرواق العربي، وقام بتأهيل الخزان ليكون صالة للمعارض نظمت كثيراً من المعارض والمحاضرات والحفلات، كما تم فيها تحكيم مشاريع تخرج طلاب كلية الفنون الجميلة صيف عام 1982. وفي عام 1987 تم بناء صالة شتوية جنوب حديقة ندوة الرواق، وهي صالة المعارض التي تحمل اليوم اسم لؤي كيالي.

رحل رشاد قصيباتي عن دنيانا عام 1990 بعد مسيرة حافلة بالعطاء. وقد أطلقت وزارة التربية اسمه على مدرسة ابتدائية في دمشق عام 1993، وأقامت له معرضاً فيها بهذه المناسبة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن