صحيح أن حرب أوكرانيا بدأت لأسباب سياسية لها علاقة بنفوذ الدول الكبرى وأمنها القومي، إلا أن نتائجها على ما يبدو لن تقتصر على ولادة نظام سياسي جديد فحسب، بل قد تكون سبباً مباشراً لبداية نظام اقتصادي جديد يضع نهاية لنظام العولمة الأحادي القطبية، الذي بدأ في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
ازدهرت العولمة الاقتصادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتطور تكنولوجيا الاتصالات والنقل ما ساعد الدول الغنية على الاستفادة من خبرات الدول الأفقر، لكن هذه العولمة أتت على حساب أولئك الذين يعتمدون في عيشهم على المنتج المحلي، وهو ما حاول الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إنهاءه عندما فرض على شركة فورد الأميركية ضريبة كبيرة إذا بنت معملاً جديداً في المكسيك بدلا من ديترويت.
أما الآن بعد هذه الحرب فقد أصبحت أغلبية الدول تفكر بأفضل الطرق للحصول على الاكتفاء الذاتي وخاصة في مجال الطاقة والزراعة.
يعتقد عدد كبير من رجال الأعمال ورؤساء الشركات أن حرب أوكرانيا ستسرع انتقال أمم كثيرة نحو تعزيز الاكتفاء الذاتي، والحافز الأساسي لهذا كان للحملة المنظمة التي أدت إلى قطع الأعمال كافة مع روسيا.
كتب مات يغلينسياس في «بلومبرغ» أن الاقتصادات الإقليمية الناشئة كالهند والبرازيل ونيجيريا، بدأت تدرس الطرق التي ستحميها من سلاح أميركا الاقتصادي في حال وجدت نفسها في مرمى النيران».
لا تقتصر رغبة تعزيز الاكتفاء الذاتي على اقتصادات الدول الناشئة فقط بل هي رغبة الاقتصادات الكبرى كالولايات المتحدة «الانعزالية الجديدة»، فقبل حرب أوكرانيا حاولت كلتا الإدارتين، إدارة دونالد ترامب السابقة وإدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، فرض قوانين لتقليل الحركة التجارية مع الصين، فواحدة من أكثر الجمل التي لاقت استحساناً في خطاب بايدن عن حال الاتحاد أمام الكونغرس، هي تعهده أن يجعل كل ما في أميركا من صنع محلي «من الطائرة الحربية إلى الموانع في الطرقات السريعة».
تنتج روسيا وأوكرانيا أكثر من ربع استهلاك العالم من القمح، ما جعل الحكومة الصينية قلقة بسبب اعتمادها على المنتجات الزراعية المستوردة، وقال الرئيس الصيني جين بيغ إن «صحون الأرز الصينية يجب أن تُملأ برز صيني».
أما الاتحاد الأوروبي الذي يعتمد كلياً على الغاز والفحم الروسي فقد تعهد بأنه سيعمل على تقليل هذا الاعتماد بنحو الثلثين بحلول الشتاء القادم والاستغناء عنه نهائياً بحلول عام 2027.
يبدو أننا نتجه إلى عالم مقسم اقتصادياً ما قد يؤدي إلى انقسام سياسي أكبر. قال ادوارد ألدين مستشار في العلاقات الخارجية لـ«نيويورك تايمز» لا أعتقد أن التكامل الاقتصادي سينجو في مرحلة «اللاتكامل السياسي».
هل ستنهي حرب أوكرانيا العولمة الاقتصادية؟ وبهذا تعود الولايات المتحدة إلى انعزاليتها كما أراد دونالد ترامب ومعه التيار التقليدي في الحزب الجمهوري؟