بشكل جازم وقطعي، لم ولن تكون الأزمة الأوكرانية بالنسبة للدول الأوروبية مجرد حدث عابر أو صراع تقليدي، من حيث الدور والسياق والتداعيات، ولاسيما بعد انغماس الأوروبيين حتى النخاع في هذا الصراع ضد روسيا، وانجرارهم في تنفيذ المخطط الأميركي الذي نجح في تحقيق بعض أهدافه الإستراتيجية من هذا الصراع، في مقدمتها تعكير العلاقة الأوروبية_ الروسية بعدما شهدت الأخيرة تطوراً ملحوظاً خلال ما يزيد على العقيدين السابقين متجاهلةٍ تبعات الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، كما نجحت الإدارة الأميركية الحالية برئاسة الديمقراطي جو بايدن من إعادة هذه الدول الأوروبية للحظيرة الأميركية بعد توتر العلاقات بين ضفطي الأطلسي في عهد سلفه دونالد ترامب، كما أنها نجحت في تكريس هيمنتها على حلف شمال الأطلسي «الناتو» الذي بات اليوم بمنزلة الأداة والعصا العسكرية بيد واشنطن لتوسيع هيمنتها وتنفيذ إستراتيجيتها التوسعية بشكل ملحوظ.
حيث لن يكون تجميد خط غاز «بروم 2» هو الضرر الوحيد الذي سيصيب أوروبا وبصورة خاصة ألمانيا، بل إن هناك جملة متراكمة من الارتدادات التي ستلمسها الدول الأوروبية جراء الأزمة الأوكرانية وموقفها ودورها الذي تبنته في الصراع الدائر هناك بين الشرق والغرب، وتتمثل هذه الارتدادات في مروحة من الصور التعبيرية التالية وبمختلف المجالات وبنسب متفاوتة ولكنها بالتأكيد لن تكون إيجابية أو يمكن تجاوزها بالسهولة المتوقعة، وتبرز أهم هذه الارتدادات في:
1. الأزمات الاقتصادية العميقة الناجمة عن أزمة الطاقة نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا وعدم وجود بديل للغاز والنفط الروسي الذي يبلغ ما يقارب من 46 بالمئة من حاجة أوروبا، وارتفاع تكاليف النقل والتخزين في الخيارات البديلة المطروحة، وما ينجم عن ذلك من ارتفاع أسعار الطاقة والكهرباء وارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، وهو ما سيؤدي لحدوث تضخم اقتصادي وتراجع في معدلات النمو وتقلص مستوى المعيشي لشريحة واسعة من الأوروبيين مع احتمال تقليص حجم الدعم ورفع الضرائب في المرحلة القادمة، حيث أصبح الاقتصاد الأوروبي بين فكي كماشة الأول يتمثل في الآثار الناجمة عن وباء كورونا، والثاني يكمن في الدخول بعنق الفقر الطاقوي وآثاره.
2. مخاطر أمنية تتمثل في مسارين متوازين، الأول: يكمن في عدم ضمان السيطرة على السلاح الذي أغدق بكميات خيالية لأوروبا، أما المسار الثاني يتمثل في سهولة تسرب المسلحين الذين أرسلوا لأوكرانيا تحت مسميات مختلفة باتجاه أوروبا نتيجة قربها الجغرافي وطول الحدود وامتلاك المسلحين لجوازات سفر متعددة، فضلاً عن سهولة الانغماس بين اللاجئين.
3. ارتفاع وتيرة نفوذ وحجم اليمين المتطرف في أوروبا نتيجة الخطاب العنصري والاتهامات المتبادلة بين الغرب وروسيا، وهو ما يولد مناخاً مواتياً ومناسباً لتسارع وتيرة عمل الأحزاب اليمينية والعنصرية في عدد من الدول مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها من الدول، وهو ما سيترجم خلال الفترة القادمة من خلال الانتخابات والحملات الانتخابية، والسلوكيات المنتهجة ضد اللاجئين الآسيويين والأفارقة مستغلين انعكاس تردي الأوضاع الاقتصادية على الواقع الاجتماعي لتوسيع شعبيتهم وتعميم خطابهم.
4. تصدع العلاقة مجدداً بين روسيا والدول الأوروبية واستمرار الصراع بين الطرفين بأشكال مختلفة والذي يستوجب البدء من نقطة الصفر بعد انتهاء الأزمة الأوكرانية الحالية، والعودة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، فيما يتعلق بقضايا الحدود والصراع والتسلح والتعاون وهو ما سيتيح للولايات المتحدة زيادة التأثير في القرار الأوروبي بما يراعي المصالح الأميركية.
5. اهتراء الوضع الأوروبي وزيادة الخلافات المحتملة بين الشعوب وأنظمة الحكم من ناحية وبين الدول بعضها مع بعضٍ، وهو ما سيمهد الطريق نحو بعض الدول الأوروبية للحذو نحو الخيار البريطاني في المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
6. تحول مركز التجارة الدولي بشكل تدريجي باتجاه آسيا والشرق الأوسط بعد زيادة بلورة العلاقة الروسية الصينية مع احتمال زيادة دائرة الدول المنضمة لهذا التحالف.
7. غياب إمكانية لعب دور الوساطة من قبل الأوروبيين في حل الأزمة الأوكرانية، نتيجة انخراطهم اللامحدود في هذا الصراع بمجابهة روسيا، وهو ما يعني غياب أي دور حقيقي أوروبي من الجانب السياسي في هذه الأزمة وغيرها من الأزمات، ما يدفع دولاً وفاعلين آخرين للعب دور جيوإستراتيجي لتعزيز دورها الحيوي في النظام الدولي، مثل تركيا التي تحاول استثمار هذا الصراع لفرض نفسها كند للأوروبيين الذين أغلقوا الأبواب في وجه دخولها للاتحاد، وكشريك للاتحاد الروسي للاستفادة من المزايا الاقتصادية، وكذلك الصين التي تعتبر حتى اليوم الرابح الأكبر من هذا الصراع، والكيان الصهيوني الذي يسارع لاستثمار هذا الصراع في فتح باب الهجرة للأراضي المحتلة وشرعنة الاستيطان.
8. استمرار الصراع الضمني بين الكنيستين الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الغربية واستغلال ذلك من قبل الكنيسة البروتستانتية لتعزيز توجهاتها العنصرية ضد الشرقين والإسلام.
هذه الجوانب وغيرها تؤكد حتمية خطأ الحسابات الأوروبية ورهاناتها الخاسرة في الصراع الأوكراني، ونصيحة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للأوروبيين خلال لقائه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا والمتضمنة «عدم تكرار خطأ الماضي في تحويل أوروبا لساحة صراع مجدداً» يبدو أنها لم تجد عقولاً يقظة لفهم مضامينها وبلاغتها، وبرأي الباحث الشخصي والمتواضع، أن روسيا الاتحادية اليوم تريد تلقين الأوروبيين درساً لن ينسوه، فإطالة أمد الحرب، وتأقلم روسيا مع العقوبات، والبحث عن أسواق جديدة لمصادر طاقتها وتبني الدفع بالروبل، ستشكل ضربات موجعة للأوروبيين، وسيشعرون بألمها ومرارتها مع كل يوم يمضي، فهم باتوا اليوم ليس فقط أقزاماً سياسية بل اقتصادية أيضاً.