كان لرمضان في الماضي طقوس فريدة ممتعة تمنحه عبقاً خاصاً؛ طقوسٌ لا يعرف طعمها إلا من ذاقها، ولا يتحسر عليها إلا من عرفها.
من هذه الطقوس الممتعة كانت (اللمّة)، واللمّة جلسة تتقارب فيها النفوس وتتصافى، وتقوى الصلة بين الأرحام…
جلسةٌ عائليةٌ هانئة، يلتف فيها أولاد العائلة حول الجد الكبير، ويتحلق الجميع حول البركة.
تلتقي في هذه الجلسة (اللمّة) كل العائلة على مائدة واحدة… يجلسون ويأكلون ويتسامرون وسط جو بهيج من الحميمية… وبعد الطعام يتشاركون في حوار عائلي مفتوح يسعون فيه إلى حل جميع الخلافات.
وعادة ما تكون هذه (اللمّة) في بيت الجد الأكبر حيث يجتمع جميع أفراد العائلة من أكبر جد إلى أصغر حفيد في بيت العيلة؛ وتبدأ هذه الجلسات منذ اليوم الأول من شهر رمضان، يجتمعون من أجل تناول طعام الإفطار، ثم يجتمعون في اليوم الثاني عند أكبر أفراد العائلة سناً، ويتناوبون طوال شهر رمضان على اللقاء على مائدة الإفطار عند أحدهم حيث تقوم ربة المنـزل باستضافتهم… وقد كانت ربات البيوت آنذاك يتنافسن على تقديم لهم أطايب الطعام الشهي الذي كانت رائحته الزكية تملأ البيوت والأحياء… وقد كان كل ابن أو حفيد يحضر معه طبخة صغيرة جداً في صحن متوسط الحجم أو صغير.
وكانت القيمة الحقيقية لهذه الجلسة تنبع من أحاديث الجد والجدة الحكيمة التي تكتنفها، وكم كان لتلك الأحاديث من أثر فعَّال على أخلاق الأولاد والناشئين لما تحمله من حكم ومواعظ.
اليوم جاءت تلك التكنولوجيا فغزت العقول والتهمت الجيوب فكانت بديلاً عن عادة اللمّة ما أفقد رمضان نكهته الخاصة.
لقد أصبح الكثيرون يميلون إلى الانعزال مع أصدقاء الفيس بوك، بدلاً من الالتفاف حول الكبار في السن والاستماع إلى أحاديثهم الشائقة.
وإنه لما يؤسف له أن نقول إنه اليوم قد اختفت اللمّة وغداً كلٌّ منا يفضل تناول طعام الإفطار بمفرده أحياناً وهو يتابع برنامجه المفضل على الفضائيات العربية أو صفحته على الفيس بوك.
ألا ليتنا نعود إلى عادات رمضان القديمة.
كانت لمّة رمضان عادة بديعة تصفي النفوس وتجدد النشاط.
السكبة في رمضان
عادةٌ رمضانية قديمة كادت تنقرض من مجتمعاتنا على الرغم من حاجتنا الماسة إليها، وما حاجتنا تلك من أجل الحصول على الطعام وإنما من أجل الوصول إلى تلك النشوة العارمة التي تعتمر في نفس الإنسان حين يرى ذلك الود ويلمس تلك العيون التي تفيض وصالاً وحناناً… وأعني بها عيني الولد الصغير الذي كان الأهل يرسلون معه السكبة إلى البيت المجاور فيطرق الباب ويقول:
ماما بتسلم عليكِ وتقول لكِ ذوقي هذا الصحن من الكوسا المحشي…
أو يقول: قال ذوقوا طعمة هذه المقلوبة من صنع ماما… وآخر يقول: ماما اشتهتكم بهذه الحلويات من صنع يدها.
اعتاد الناس في شهر رمضان تبادل أطباق الطعام والشراب المتعددة مع الجيران وذلك مع اقتراب موعد أذان المغرب إذ تنشط الحركة في البناء وعلى الدرج، وتصدر أصوات قرع الأبواب وترى في الشارع أطفالاً صغاراً تعلو الابتسامة وجوههم، يحمل كلٌّ منهم صينية أو صحناً ذا رائحة زكية ويهرع بفرح ليدق باب أحد الجيران ويقدم لهم صحن الطعام… على أن أفضل وقت لتقديم السكبة هو قبيل أذان المغرب بدقائق قليلة وذلك مراعاة للمشاعر فقد تكون العائلة التي سيُقدَّم إليها الطعام من العائلات الفقيرة.
ومما يذكر أن هذه عادة السكبة كانت أحياناً تستخدم أحياناً لإنهاء الخلافات بين عائلتين تخاصمتا، لأن مجرد تقديم طبق حلوى للعائلة الأخرى، يشير إلى أن الخصام قد زال… ذلك أنه يندر أن يستمر خلاف بين الناس ضمن الشهر الفضيل.
حقاً إن هذه العادة، تشيع روح الألفة بين الناس، وتزرع المحبة في النفوس… ولا يفوتني أن أؤكد أنه لا يفترض إطلاقاً أن تكون السكبة من أنواع الطعام الفاخر، بل إن تبادل سكبة مؤلفة من طعام بسيط جدا لكنه جيد الصنع هو الذي يشيع بين الناس ذلك الرونق الحضاري والبعد الاجتماعي.
ألا ليتنا نزرع في نفوس أطفالنا هذه الخصلة المهمة من خصال رمضان لِـما تحمله من تآلف وتراحم من شأنه أن يقوّي الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.