ثقافة وفن

أين نحن من الأمن العلمي والثقافي العربي؟

| د. رحيم هادي الشمخي

الأمن القومي والأمن الغذائي يرتبطان بالأمن العلمي والفكري في الدول المتقدمة والنامية على السواء، ولكن السؤال: هل أجهزة العلم في البلاد العربية سليمة ومهيأة بكل ما يمكنها من البحث العلمي وتخريج المتخصصين في كل علوم العصر ومطالب التكنولوجيا؟

كلنا مهتمون بالأمن القومي: أمن الدول العربية من الخارج، وأمن المواطن العربي في الخارج على نفس المال والأهل، وكلنا مهتمون بالأمن الغذائي: أمن كل مواطن على غذائه وغذاء أولاده ومن يعول، وكلنا محقون في هذا الاهتمام، لأن أمن الوطن والمواطنين من الخارج والداخل هو الشرط الأول لوجود الأمة نفسها، كما نحن مهتمون وكلنا نفكر في الأمن، ولكن من الذي يضطلع بمسؤولياته؟ من الذي يتولى بالفعل تحقيق أمننا القومي والغذائي؟.

التجربة وإدراكها

إنها صفوة مختارة من المتعلمين المجربين المدركين لظروف الأمة العربية ومطالب أمنها، العارفين بأحوال الدنيا من حولنا، العاملين على حمايتنا وحماية أوطاننا من الأخطار المحدقة، وهذه الصفوة المختارة رشحها علمها وفهمها وإدراكها وتجربتها للقيادة في هذه الميادين، ومن دون هذه الصفوة المختارة لا أمان لنا من الخارج أو الداخل، وعلى قدر ما يبلغ إليه علم هذه الصفوة ومستوى إدراكها وتجربتها، يكون قدر ما يتحقق للأمة من أمن ثم من تقدم ورخاء يقومان عليه، فالأمر في النهاية قائم على علم ومعرفة وخبرة، فإذا لم يتيسر هذا للأمة فلا سبيل لها إلى اختيار الأكفاء الصالحين للقيادة القادرين على حمل المسؤوليات.

أمن الأمم

إذاً فالأمن القومي العربي كله والأمن الغذائي كله قائمان على أمن علمي فكري، وهذا لا ينطبق علينا وحدنا، بل ينطبق على كل الأمم، كبيرة أو صغيرة، متقدمة أم غير متقدمة، فوراء الأمن الذي تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية قومياً وغذائياً، وفي عالم اليوم أوطان تضم أراضيها من الثروات الطبيعية ما يقارب ما عند الولايات المتحدة الأميركية، ولكن هذه الأوطان غير آمنة من الخارج، وفيها جماعات كثيرة جداً محرومة من الحد الأدنى من الغذاء، لأن هذه الأوطان لا تتمتع بالأمن العلمي والفكري الموجود في بعض الدول المتقدمة، وهذه الأمم تشكو قلقاً أو نقصاً في العلم والفكر، ونتيجة لهذا فهي تعاني نقصاً في الأمن من كل خطر خارجي أو داخلي وقبل 70 عاماً كانت روسيا القيصرية تملك هذا الوطن الروسي الشاسع الذي تراه على الخريطة، ولكن روسيا لم تكن مع ذلك دولة آمنة لا من الخارج أو الداخل، لأن الأمن العلمي والفكري لم يكن بكاف إذا تحمل مسؤوليات وطن ضخم مثل روسيا، ولهذا فقد كان أول ما اهتمت به روسيا بعد ثورة أكتوبر 1917 هو إقامة القاعدة العلمية الفكرية التي بنوا عليها أمن البلاد في كل الميادين، ومفهوم الثقافة اليوم يشمل كل عناصر الحياة وأساليب العيش في المجتمع: كيف يفكر الناس، كيف يحسون، كيف يتصورون الدنيا، ماذا يأكلون وماذا يشربون، وكيف يأكلون ويشربون؟ إنها أسلوب الأمة في الحياة، وكما أن كل منا يختلف عن غيره في أسلوبه في الحياة والتعرف فكذلك تختلف أمة عن أمة في أسلوب حياتها، فالفرنسي متقدم كالإنكليزي، ولكن أسلوب الحياة مختلف في فرنسا عنه في إنكلترا، ولهذا يوجد شعب إنكليزي وشعب فرنسي يختلف أحدهما عن الآخر كل الاختلاف مع أن الذي يفصل بينهما مجرد مجرى مائي ضيق، وفي شرق فرنسا يعيش شعب آخر يختلف عن الشعب الفرنسي هو الشعب الألماني، والمستوى العلمي في الاثنين واحد، ولكن الاختلاف في الحياة أو في الثقافة بتعبير آخر، وكل شعب من هذه الشعوب يجتهد في الحفاظ على ثقافته أو أسلوبه في الحياة لكي تظل له شخصيته ويستمر وجوده، ولو افترضنا أن الشعب الفرنسي تخلى عن تراثه الثقافة وخصائصه الشخصية، وترك فنونه وأسلوبه في الحياة لاختفى هذا الشعب الفرنسي كله من الوجود، لأن الأمن القومي والأمن الغذائي يقومان أساساً على قاعدة من الأمن العلمي والثقافي.

دعوات للثقافة

ورغم دعوات الدول العربية الشقيقة إلى ترصين مفهوم الأمن والثقافي في أكثر مؤتمرات الجامعة العربية إلا أن السؤال المثير هو: أين نحن من الأمن العلمي والثقافي؟

ولن نجيب عن هذا السؤال إلا بالقدر الذي يسمح به علمنا، وهو جد قليل، ومن هنا سأتناول ناحيتي العلم والثقافة، ففي العلم نسأل: هل نحن آمنون علمياً؟ أقصد هل أجهزة العلم عندنا سليمة مهيأة بكل ما يمكنها من البحث العلمي وتخريج الشباب المتخصص في علوم العصر ومطالبة التكنولوجية، وأجهزة العلم في الجامعات والمعاهد، وتحت هذه الأخيرة تندرج مراكز البحوث والأكاديميات، وكلامنا هذا ينصب على الوطن العربي كله لأن المستوى فيه في هذه الناحية متقارب جداً، والجواب هنا واضح وصريح، ولابدّ أن يكون واضحاً وصريحاً لكي يكون هناك سبيل للعلاج، والجواب أننا غير آمنين علمياً.

البحث العلمي العربي

جامعاتنا تشكو قصور أجهزة البحث والدراسة فيها، لا عن في المال فحسب، بل عن إهمال وتقصير وقلة طموح، أو عدم إدراك لجسامة الواجب الملقى على عواتق المسؤولين عن البحث والدراسات، وأخطر من ذلك كله، ستجد المسؤولين عن البحوث قد تحولوا إلى موظفين يتمتعون بكل عيوب الموظفين التقليديين، وننتقل الآن إلى ميدان الثقافة، ثقافتنا، الأصيلة، لغتنا العربية، تقاليدنا الاجتماعية، أصولنا الفنية، أسلوبنا في الحياة كله، هل هذا كله آمن؟ والجواب الحزين على شفاهنا جميعاً: إن لغتنا العربية في تدهور، حتى المتخرجون من الجامعات العربية في أقسام اللغة العربية لا يحسنون العربية، هذه حقيقة يعرفونها هم، ونعرفها نحن، وهل هناك أعجب من أن دور الصحف تعاني أزمة من المصححين، أي في رجال يتقنون اللغة العربية ويستطيعون تصحيح ما يرد من الأقطار في المادة التي تنشر، وموسيقانا وأغانينا كيف حالها؟ الموسيقى أصبحت تلويناً نغمياً من دون معنى، والأغاني ماذا نسمع فيها غير ترديد ممل وتقبل لعبارات مستهلكة ثقافياً.

إذاً نحن غير آمنين، بل إن التوجيه يعاني قصوراً معيباً، ولابدّ هنا من وضع الأمن العلمي والثقافي موضع البحث والدرس والعلاج بالضبط كما عالجنا بنجاح موضوع الأمن القومي وكما نعالج باهتمام وإخلاص باليقين موضوع الأمن الغذائي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن