قضايا وآراء

العقوبات على روسيا وتآكل هيمنة الدولار

| الدكتور قحطان السيوفي

كان من المفترض أن يتعافى الاقتصاد العالمي عام 2022 من صدمة كوفيد19، ليعود إلى المسارات التي كان عليها قبل الجائحة.

لكن مع اندلاع الأزمة الأوكرانية كأضخم حرب على الأراضي الأوروبية منذ 80 عاماً أصيب الاقتصاد العالمي بصدمة أحدثت ركوداً تضخمياً شديداً، وارتفاعاً في الأسعار وتعرض إمدادات الطاقة للتهديد.

أطلق قرار الولايات المتحدة وحلفائها بتجميد الاحتياطيات الأجنبية لروسيا العنان لجدال حاد حول مستقبل النظام النقدي العالمي، فقد ظل الدولار العملة الدولية المهيمنة منذ اتفاقية «بريتون وودز» عام 1944 التي اعتمدته كعملة رسمية للاحتياطي النقدي.

ووفقاً للتقارير الدولية فإن حصة الدولار في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية تتجه نحو الانخفاض؛ كانت 70 بالمئة مطلع القرن لتصبح 59 بالمئة فقط في الربع الثالث من 2021، مقابل 20 بالمئة باليورو، و6 بالمئة بالين الياباني، و5 بالمئة بالجنيه الإسترليني، و3 بالمئة باليوان الصيني.

لكن هيمنة الدولار أصبحت موضع نقاش منذ سنوات وتواجه تساؤلات منذ فترة طويلة؛ إذ عمدت عدة دول إلى تنويع احتياطاتها النقدية باللجوء إلى اليورو والإسترليني والين واليوان.

كما بدأت هيمنة الدولار تتآكل بسبب تحولات موازين القوة الاقتصادية وبروز الصين كمنافس للولايات المتحدة، والتعاملات المالية الرقمية، وصعود العملات المشفرة، وعاد النقاش بقوة أخيراً مع الحرب الأوكرانية والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، فحتى نهاية كانون الثاني كان احتياطي العملات الأجنبية التي تحتفظ بها روسيا يقدر بنحو 469 مليار دولار.

جاءت العقوبات لتشمل احتياطيات البنك المركزي الروسي الموجودة في الخارج، وتحرم موسكو من نصف احتياطياتها من النقد الأجنبي، هذا الوضع أرسل إشارات إلى دول أخرى مثل الصين التي تدرك أنها ربما تكون مستهدفة في المستقبل.

يرى محللون أن التحدي الأقوى للدولار ربما يأتي مستقبلاً من العملات الرقمية. هناك 100 دولة تدرس إمكانية استخدام عملات رقمية، وتمثل هذه الدول 90 بالمئة تقريباً من الناتج الإجمالي العالمي، الولايات المتحدة تبدو متأخرة في التحرك نحو تبني مشروع الدولار الرقمي، وهي قلقة من تحرك الصين نحو العملات الرقمية بإطلاق اليوان الرقمي لتعميمه في الاستخدام بين مواطنيها كخطوة أولى نحو تبنيه في معاملاتها مع الدول الأخرى.

الكلام عن عملات رقمية جديدة تتحدى الدولار وإضعاف مكانته كعملة الاحتياطي النقدي العالمي ليس جديداً، ولا وجهة نظر صادرة بالضرورة من الصين وروسيا.

فعلى سبيل المثال دعا مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا السابق، في خطاب ألقاه عام 2019 أمام اجتماع لمديري البنوك المركزية العالمية في بلدة جاكسون هول الأميركية، إلى إنهاء سطوة الدولار الأميركي على النظام المالي العالمي، باعتباره عملة الاحتياطي النقدي الرئيسية.

وقال سطوة الدولار أصبحت تشكل عائقاً أمام انتعاش الاقتصاد العالمي ورأى كارني أنه يمكن استبدال الدولار بعملة رقمية عالمية تتبناها البنوك المركزية.

وهذه العملة الرقمية، يمكن أن تثبط التأثير المهيمن للدولار الأميركي على التجارة العالمية، بالمقابل ألقت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا في شباط الماضي كلمة أمام «مجلس أتلانتيك» في واشنطن حول العملات الرقمية، وقالت إن العالم بلغ مرحلة التجريب للعملات الرقمية، الصين والسويد قطعت شوطاً في هذا المجال.

ارتداد العقوبات الاقتصادية ضد روسيا انعكس على أوروبا والولايات المتحدة التي كمن أطلق النار على رجله، خاصة بعد قرار الرئيس فلاديمير بوتين بروبلة (روبل) الغاز والبترول، عبر فرض شراء الغاز والنفط الروسي بالعملة الروسية الروبل، الذي ألزم الدول الأوروبية البحث عن الروبل للأداء مقابل النفط.

ما يُتيح استعادة الروبل لقيمته التي فقدها جراء العقوبات الغربية، وأكدت وسائل الإعلام أن الروبل الروسي تحسّن مقابل الدولار واليورو حتى إنه بات أحسن مما كان عليه قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في ٢٤ شباط الماضي، وربما ساعد بذلك قيام روسيا بالتعامل بالروبل مع الصين ثم الهند، وقد تفعل ذلك مع تركيا وجنوب إفريقيا والبرازيل، وستكون أول دولة في العالم تعمل تسعيرة صادراتها الغاز والبترول بعملتها الوطنية بدل الدولار، وهذا قد يدفع الصين إلى التفكير في التخلص مستقبلاً من احتياطات الدولار التي تتجاوز 3500 مليار دولار، أكبر احتياطي للدولار في العالم، وقد ينخفض الدولار إلى مستويات غير مسبوقة في الشهور المقبلة.

نشرت وسائل إعلام عالمية مؤخراً تقارير مفادها أن المملكة العربية السعودية تدرس استخدام اليوان الصيني بدلاً من الدولار الأميركي في مبيعات النفط للصين، علماً أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان هدد تلميحاً بهذا الإجراء انتقاماً من سياسة واشنطن تجاه الرياض عندما رفضت بيعها أسلحة بسبب حرب اليمن.

البنك المركزي الهندي والبنك المركزي الروسي قاما بإنشاء آلية دفع تجارية «روبية– روبل».

ومما قد يؤدي إلى إضعاف هيمنة الدولار على سوق النفط العالمية أن التزام الصين بتنويع احتياطياتها من النقد الأجنبي، وتشجيع مزيد من المعاملات باليوان، وإصلاح نظام العملات العالمي من خلال تغييرات في «صندوق النقد الدولي»، خطوات تعزز إستراتيجية روسيا، ويحفز بكين على الانضمام إلى موسكو في بناء نظام مالي عالمي جديد.

كما أن مجموعة «بريكس» التي تضم البرازيل والصين والهند وروسيا وجنوب أفريقيا، ومنظمة شنغهاي، يتعاونون لخلق ائتلاف مناوئ لتقليص الاعتماد على الدولار.

أخيراً فإن العقوبات الغربية على روسيا لن تحقق كل أهدافها العدوانية، كما أن الارتدادات الانعكاسية للعقوبات على واضعيها بدأت تظهر بالتضخم وارتفاع الأسعار، بالإضافة لانعكاسات سياسية، والأهم التآكل الخفي والمتدرج لهيمنة الدولار عالمياً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن