في العموم قد يمثل اندلاع حرب كبرى، وأكثر خطورة، فرصة لإخماد حرب أصغر، وأقل خطورة، انطلاقا من أن الفعل الأول سيؤدي بالضرورة إلى تخفيف عوامل الضغط عن الثانية بعد أن تكون الأولى قد استأثرت بجلها، وهذه الفرصة تزداد فيما إذا كانت المشتركات بين الحربين عديدة، وخصوصاً إذا ما قادت الأولى إلى رسم توازنات جديدة من النوع الذي يمكن للثانية أن تستفيد منه، ولربما أيضاً، يجد بعض اللاعبين ممن أعيتهم الحرب الصغرى حتى باتت حالة «الستاتيكو» التي تشهدها منذ أعوام «مملة» بالنسبة إليهم، أن الحالة الأخيرة من شأنها أن تصيب السياسات، الخادمة للمصالح عادة، في مقتل.
قد يكون التوصيف السابق منطبقاً تماماً في حالة الحرب السورية التي أصبحت «صغرى» بعيد اندلاع الحرب الأوكرانية «الكبرى»، فالتداعيات التي تهدد بها هذي الأخيرة أكبر، بما لا يقاس، من تلك التي كانت الأولى تهدد بها، ثم إن المشتركات بين الحربين أكثر من أن تحصى بل لربما يصح القول: إن الأولى، أي الحرب السورية، كانت تدريباً يهدف لرسم ضوابط لخطوط تماس في الجبهات شديدة الحساسية ما بين انقسام العالم إلى «شرق» و«غرب» من جديد، والثابت هو أن التدريب أخفق في عملية الرسم آنفة الذكر عندما آن أوان العرض الحقيقي الذي مثلته الأزمة الأوكرانية.
بعد مرور ما يزيد على خمسين يوماً على اندلاع الحرب الأوكرانية، التي بات من المؤكد أنها تمتلك الكثير من العوامل التي يمكن لها أن تكسبها صفة «المزمنة»، فالمفاوضات الجارية، على الرغم من تأكيدات الروس بأنها تحقق تقدماً، تبدو صورة أقرب للتأكيد على أن «معاول» السياسة لم تعدم آمالها تماما في مواجهة «جرافات» الحرب، ناهيك عن أن الرئيس الأوكراني، كما بدا في كلمته التي وجهها إلى مجلس الأمن في 6 نيسان الجاري، لا يبدو مكترثاً بإيقاف الحرب، بمقدار ما هو مهتم بعزل روسيا، وزيادة العقوبات عليها حتى وإن كان الثمن مزيداً من الخراب والتدمير في بلاده، نقول بعد مرور ما يزيد على خمسين يوماً على تلك الحرب راحت القوى الإقليمية تتصرف، أو تتموضع، في سياق المتغيرات التي أفرزتها الحرب وباتت تمثل معطيات ملموسة، وكذا في سياق قراءاتها للمتغيرات التي ستفرزها لاحقا، وفي هذا السياق سنشهد اتساعاً للفجوة التي صنعتها الإمارات في جدار الحصار المفروض على دمشق، وهي، أي تلك الفجوة تتساوق مع رؤية سعودية لا تزال تنتظر تكشف المزيد حتى ليكاد الفعل أن يصبح خليجياً عمومياً مع تسجيل استثناء قطري، والفجوة، وقرارها، على الرغم من أنها حدثت منذ العام 2018، إلا أن اتساعها الحاصل في شباط 2022 يوحي بأن أبو ظبي، كرأس حربة خليجي الآن، ضاقت ذرعا بالتخبط البادي على السياسات الأميركية، أقله من المنظور الخليجي، ثم راح ينظر إلى التوتر الحاصل بين روسيا من جهة وبين الغرب بقيادة «أنغلوساكسونية»، على أنه فرصة يمكن لالتقاطها أن يتيح هامشاً للمناورة الرامية لتحقيق تلاقيات مع طموحات بترميم الصدع الحاصل في المنطقة منذ ربيع العام 2011، ناهيك عن أن غرف صناعة القرار السياسي في الخليج، ودائماً مع استثناء قطري، راحت تعيد حساباتها في التحالف القائم فيما بينها وبين واشنطن في أعقاب التحولات الحاصلة عند هذي الأخيرة التي راحت تزيل العقبات، على كثرتها، من على الطريق الموصل فيما بينها وبين طهران، فمن دون أدنى شك ترى تلك العواصم أن فعل واشنطن الأخير، الذي ترمي من خلاله للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، هو نوع من التهميش للمصالح الخليجية، وهو يمثل بكل المقاييس خروجاً عن تحالفاتها القائمة مع الولايات المتحدة بمدة تعادل تماما ظهورها كيكانات مستقلة تحظى باعتراف دولي.
بدورها أنقرة راحت تشق مسارات جديدة، وفي خلالها راحت تتلمس نوعاً من فرصة سانحة لتقاربات مع دمشق تتيحها اللحظة الأوكرانية والانغماس الروسي فيها، حيث من الممكن النظر إلى التقرير الذي نشرته صحيفة «حرييت» التركية يوم الإثنين 4 نيسان الجاري، والذي أشارت فيه إلى أن أنقرة كانت قد حملت وزير الخارجية الإماراتي خلال زيارته الأخيرة لها رزمة من الرسائل لدمشق، وأن ولي عهد أبو ظبي كان قد نقلها للرئيس بشار الأسد خلال لقائه الأخير معه، وهو الأمر الذي نفته دمشق جملة وتفصيلاً، نقول من الممكن النظر إلى ذلك على أنه فعل شبيه بـ«بالون اختبار» يمكن لردود الأفعال عليه أن تعطي صورة عن طبيعة التحولات الحاصلة على السياسة السورية ما بعد الأزمة الأوكرانية، ولربما كانت النظرة التركية تقول إن اللحظة سانحة لقيام تفاهم سوري تركي يهدف بالدرجة الأولى لحشر المشروع الانفصالي الكردي في الشمال الشرقي من سورية في زاوية ضيقة تمهد لهزيمته تماماً وتفكيك البنى التي أقامها على امتداد ما يقرب من سنوات ست، وخصوصاً أن دمشق راحت تعلي من نبرة تصريحاتها تجاه قيادات «قسد» و«مسد» مؤخراً بطريقة توحي، أقله فيما فهمته أنقرة، بأن دمشق قد نفد صبرها تجاه تلك القيادات وإمكانية عودتها إلى حضن السيادة الوطني.
هذه الانزياحات تتساوق أيضاً مع تأكيد جزائري جاء على لسان الرئيس عبد المجيد تبون الذي تبنى موقفا، ليس مفاجئاً ولا هو بجديد، بأن لا قمة عربية تعقد على الأراضي الجزائرية من دون حضور سورية، ولم يعد هناك من «نشاز» في هذا السياق سوى هذا البالون المنفوخ الذي اسمه «إمارة قطر».
هذه المكاسب السياسية، تكرس واقعاً يميل للإيحاء بإمكان حط الأزمة السورية لرحالها، وهو الأمر الذي لم تلتقطه، كما يبدو، المعارضة السورية ممثلة بـ«الائتلاف» المعارض الذي يعيش اليوم أياماً عصيبة على وقع حالة التشاور التركي القطري للاستئثار بقراره، ولربما إذا ما ظلت «البصيرة والمصالح الشخصية» هي الغالبة على غرفة صناعة القرار في هذا الأخير، فقد يكون من الراجح أن نشهد غياب الكيان قريباً عبر الإعلان عن تفككه وتلاشيه إلى مكوناته التي تلاقت في لحظة من اللحظات عند نقطة تقاطع إقليمية دولية باتت من الماضي.
لكن الفعل، أي تكريس المكاسب السياسية، يبقى ناقصاً ما لم يقترن بنظير له اقتصادي، فالحمولات التي يعيشها الاقتصاد السوري باتت ذات تداعيات خطرة على النسيج المجتمعي الثقافي والفكري، وربح معركة الاقتصاد يبدو أمراً لا يقل أهمية عن معارك العسكرة والسياسة، ولربما كان الرهان اليوم على الصين والإمارات لكسب تلك المعركة، على أهميته، فعلاً غير كاف، لوقف سلسلة هذا الانحدار الآخذ في تسارع مخيف.