اقتصادالأخبار البارزة

كيف أثرت الحرب على موازنة الدولة.. وماذا أخفت بين أرقامها للعام 2016؟ … تأمين مستوى معيشي كما في 2010 يتطلب موازنة بـ3144 مليار ليرة .. 4388 ليرة ما يعادل 11 دولاراً حصة كل مواطن في الشهر من الدعم في 2016

علي نزار الآغا :

لا تبدو المقارنة منطقية وعلمية بين موازنة 2010 حيث البلاد في حالة طبيعية وموازنة 2016 حيث البلاد في حالة حرب، ما نعرضه هنا ليس بهدف المقارنة بقدر ما هو قراءة في أثر الحرب على موازنة الدولة ومن خلالها على الاقتصاد السوري.
1980 مليار ليرة سورية هو الرقم الذي تم اعتماده لموازنة عام 2016، وهو أكبر رقم مسجل منذ صدور القانون المالي الأساسي للدولة بالمرسوم (93) عام 1967. ولحاقاً خلف هذا المنطق الإحصائي الأصمّ صرحت الحكومة بأكثر من مكان عن الزيادات في هذه الموازنة «الضخمة» بأرقامها.
إلا أن لغة الاقتصاد، تجرد تلك الأرقام من هول ضخامتها الاسمية، وتكشف درجة ضعفها من جهة التأثير في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتزيح الغطاء عما لم يعلنه بيان الحكومة المالي، من وهن في برنامجها الاقتصادي، يعكس في حقيقته أثر سنوات الحرب على البلد من جهة، وضعف إدارة أعبائها وتوزيعها على المواطنين بـ«واقعية» من جهة أخرى.
ولمعرفة كيف أُثرت الحرب على الموازنة، يمكننا قياسها ببساطة إلى الرقم القياسي للأسعار (تغيره يعني مستوى التضخم في البلد). فلو أخذنا عام 2010 كسنة أساس، نجد أن معدل التضخم (وفقاً لما هو معلن رسمياً) قد يتخطى 422% مع نهاية هذا العام، وذلك على أبسط تقدير، بفعل التغيرات الحاصلة في سعر الصرف وانعكاسها على أسعار السلع والخدمات، علماً بأن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن المعدل أعلى من ذلك وقد يصل 600%.
وباعتماد السيناريو الأفضل (لمصلحة الحكومة)، ينبغي أن تزيد الموازنة في عام 2016 بما لا يقل عن أربعة أضعاف عما كانت عليه في العام 2010، كي تحافظ على المستوى المعيشي والقدرة الشرائية للمواطن كما هي دون تغيير يذكر. وهذا يقتضي اعتماد موازنة بنحو 3144 مليار ليرة سورية في عام 2016 (كانت الموازنة 745 مليار ليرة عام 2010)، ومضاعفة كتلة الأجور والرواتب ومعاشات المتقاعدين بنسبة التضخم نفسها بين العامين 2010 و2016، وهذا ما لم يحصل أبداً، فنسب الزيادة متواضعة قياساً إلى التضخم، ما يقدم صورة واضحة عن مستوى العجز، وما خلفه من فقر في المجتمع.
طبعاً في الحالة الطبيعية، يجب ألا تزداد الموازنة بأكثر من معدل نمو الناتج الإجمالي المحلي (معدل النمو الاقتصادي الذي يقيس في مضمونه تحسن المستوى المعيشي نظراً لزيادة الإنتاج)، وذلك خشية من الضغوط التضخمية، وتداعياتها السلبية. لذا يتم اعتماد مؤشر حجم الموازنة إلى إجمالي الناتج المحلي لقياس درجة تدخل الدولة في الاقتصاد، وقد كانت تقارب 51% في عام 2010.
عملياً، كانت الحكومة مقيّدة بالإمكانات والموارد المالية المتاحة، في اعتمادها موازنة متواضعة للعام 2016، إلى جانب خشيتها من تفجر التضخم، وانخفاض أكبر في قيمة الليرة، لكنها لم تقف مكتوفة الأيدي، فبدلاً من إعادة النظر ببعض بنود وأبواب الموازنة والأساليب الفنية المستخدمة، بهدف تحقيق أكبر عدالة ممكنة في توزيع أعباء الحرب؛ حافظت على أساليبها التقليدية، التي فاقمت الآثار السلبية للموازنة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

حقيقة الدعم
بالأرقام التقديرية الواردة في موازنة 2016، زاد بند فروقات الأسعار (في الإيرادات الجارية) بنحو 190% عما كان عليه في العام الجاري (2015)، إذ يستضيف هذا البند مبلغاً بنحو 3.6 مليارات ليرة سورية زيادة على عام 2015، بفضل سياسة تحرير الدعم «الجزئي/ بلغة الحكومة» ورفع أسعار المشتقات النفطية بصورة رئيسة هذا العام، والتي أخذت من جيوب الفقراء المستحقين الحقيقيين للدعم، بالنسبة نفسها من الميسورين غير المستحقين له بالمعنى الاقتصادي. ولعل هذه إحدى أبرز صور التشوّه في بنود الموازنة، فبدلاً من إعادة هيكلة الدعم وإيصاله لمن يستحقه، وسعت الحكومة من مصادر ضرائبها غير المباشرة من دون تصريح رسمي في ذلك، فالمبالغ الإضافية التي يدفعها المواطنون كفرق في أسعار المواد المدعومة تأخذ صورة ضرائب غير مباشرة تؤمن إيراداً للموازنة من جيوب الفقراء.
ويصب في السياق نفسه، انخفاض رقم مساهمة الدولة في تثبيت الأسعار بنحو 40.25 مليار ليرة سورية، وذلك من 232.5 مليار ليرة هذا العام إلى 192.25 مليار ليرة العام القادم، ما يشير إلى احتمال رفع أسعار المواد التموينية، وإعادة النظر في كمياتها.
موازنة 2016 خصصت مبلغ 1035 مليار ليرة للدعم الاجتماعي الإجمالي, ومنه نجد أن حصة المواطن السوري الواحد من هذا الدعم تبلغ 146 ليرة في اليوم، أي 4388 ليرة في الشهر (يعادل 11.3 دولارات بحسب سعر صرف السوق أمس)، ما يعني 52650 ليرة في العام. وذلك على اعتبار أن عدد السوريين اليوم نحو 20 مليون نسمة.
وبالنسبة للأسرة السورية المؤلفة من خمسة أفراد، يكون إجمالي الدعم المقدم لهم من الحكومة في الشهر 21938 ليرة سورية, على اعتبار أن الدعم يوزع بشكل متساوٍ للجميع، لرجل الأعمال كما المواطن ذي الدخل المحدود أو المعدوم!
وعلى ذلك يمكن للحكومة التفكير بأساليب عادلة لإعادة هيكلة الدعم من خلال تصميم استمارة تقييم لدخل الفرد والأسرة، باستخدام العديد من المؤشرات لضمان أقل خطأ أو تلاعب في التقييم، وعلى ذلك، يتم تقسيم السوريين إلى شرائح، منها يستحق دعم بنسبة 100%، ومنها 50% ومنها 25%، ومنها لا يستحق الدعم أبداً، وعلى ذلك يتم تحويل البدل النقدي للدعم شهرياً عبر بطاقات صراف آلي، كلٍ وفق شريحته، ويتم تحديد المبالغ المستحقة وفق مؤشرات حقيقية. في المقابل يتم تحرير أسعار المواد المدعومة، وتحديد رسوم محددة لخدمات الصحة والتعليم، وتصميم آليات مناسبة، تكفل رفع جودتها، وتقديمها وفق منظور آخر للعدالة الواقعية. أو يمكن توزيع مبالغ دعم السلع والمواد والحفاظ على دعم خدمات الصحة والتعليم.
وعلى ذلك تصبح أرقام الموازنة أكثر فاعلية على أرض الواقع، كما تبدو أقرب ما تكون إلى الحقيقة، إذ تحدّ من المخاتلات المحاسبية في إعداد الموازنة، وخاصة سعر الصرف.

«بعزقة» أموال الشعب
رقم آخر يلفت الانتباه في الموازنة، وهو تخصيص مبلغ 258.82 مليار ليرة «كاعتمادات احتياطية» للمشاريع الاستثمارية يضاف للجهات العامة عام 2016، في حال عدم كفاية الاعتمادات المرصدة لديها وارتفاع نسب التنفيذ لديها، وهذا الرقم يعادل 50.75% من الاعتمادات الاستثمارية في الموازنة.
المقصود بهذا الرقم -حسب بيان الحكومة المالي- التعامل بعقلانية ومرونة مع تطورات الوضع الأمني على أرض الواقع وترك هامش للتحرك ونقل الأموال المخصصة للاستثمار إلى حيث يكون ممكناً.
وهنا نسأل: على أي أساس تم تحديد رقم الاحتياطات ليزيد بأكثر من 100% من الاعتمادات الرئيسية؟ أليست أولويات تأمين ظروف العيش للمواطنين والحد من الفقر أحق بجزء كبير من هذا الرقم؟ وهل يمكن أن يكون هذا الرقم باباً واسعاً للمناورة في إنفاق المال هنا وهناك من دون ضوابط، وفي غير محله؟

مخاتلات سعر الصرف
لا يزال اعتماد سعر الصرف في الموازنة غير صحيح، ويجعل أرقام الموازنة التقديرية غير منطقية، فبدلاً من تحديد سعر صرف للدولار أمام الليرة واقعي، مستهدف اقتصادياً، يحرص المصرف المركزي على استقراره، ويضبط تقلبه في هامش مقبول، يتم اعتماد سعر الصرف الرائج في المركزي (وسطي المصارف) في أيار عند البدء بإعداد الموازنة، من دون وجود إمكانية لتعديل هذا الرقم، (وهو 250 ليرة في موازنة 2016) والذي هو أقل من السعر الرائج في السوق، ما يخلق فجوة موجبة لمصلحة الحكومة في جانب الإيرادات، بسبب الفرق بين السعر الرائج وقت تحقق الإيرادات، والسعر المعتمد في الموازنة.
في جانب الإنفاق تكون الفجوة سالبة، فالتكاليف الحقيقية لمشتريات الحكومة سوف تكون أعلى من المقدرة في الموازنة، لذا يكون الحل، بتخفيض تنفيذ المخصصات، حرصاً على عدم تجاوز الأرقام المقدرة، وبهذه الآلية تعمل الحكومة على تخفيض العجز محاسبياً، فقط، بينما يتعاظم في أثره الاقتصادي (تدني القدرة الشرائية للمواطن) واجتماعياً (ارتفاع مستوى الفقر) بصورة تنقصها العدالة.
مع التنويه إلى أن هذه الفجوات تظهر كفروقات أسعار وخسائر مدورة للمؤسسات المعنية بالدعم إذ إن الميزان التجاري هو من يعبر عن حركة الاستيراد والتصدير في الدولة، وهو جزء من ميزان المدفوعات. وهنا يبرز الخلل الحقيقي في سعر الصرف وأثره على مستوى الفقر، إلى جانب الموازنة.
وفي النهاية، يمكننا الحكم على أسلوب إعداد الموازنة بأنه غير منطقي، أبداً، وهذا ما يجعل أداة الحكومة المالية في تنفيذ سياسات وطروحات الدولة والمجتمع؛ غير فعالة اقتصادياً واجتماعياً، خلافاً للتعادل الوهمي بين إنفاق الحكومة وإيراداتها.
ولا ننسى بعض الأسئلة الأخرى المتعلقة بالضرائب وفوائض السيولة، والتفكير بموازنة الأداء..
كلها قضايا تحتاج إلى التوقف عندها بعقلانية اقتصادية ومسؤولية اجتماعية من أجل إعادة النظر ببنود وأبواب الموازنة وأساليب إعدادها الفنية العتيقة، لإعادة الأمور إلى نصابها، وجعل الحكومة قادرة على تحمل مسؤولياتها في تنفيذ سياسات الدولة، وصون الحياة الكريمة للمواطنين وتحقيق العدالة في توزيع أعباء الحرب وبناء البلد من جديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن