خديوي سورية والتوثيق لما خفي عنا … سامي مبيض بالوثائق والشهادات يسجل ما مرّ بدمشق وأهمية المرحلة
| إسماعيل مروة
هذا الطريق المستقيم، سمي كذلك لاستقامته، وربما لأن نور المسيحية والإسلام فيه بدأ، فمن باب الجابية إلى باب شرقي نور لا ينتهي لبولس الرسول وأبي عبيدة بن الجراح.. كيف صار مدحت باشا عنوانه واسمه؟ ومتى حمل اسمه؟ ولماذا أطلق اسمه على هذا الطريق الذي يمثل الشام كلها؟ وهل نعرف من هو الذي التصق اسمه بأحب شوارع الشام إلى أهلها؟
المعرفة والضرورة
ربما بل من المؤكد، لا يعرف أغلب الدمشقيين والسوريين من هو مدحت باشا، وربما لو سألنا متخصصين عن الأمر فإن إجابتهم ستكون باسم الوالي العثماني على دمشق، ولن يتمكن الكثيرون من تحديد المدة الزمنية التي عاشها الوالي في دمشق.. ولو تعمقنا أكثر في الموضوع فإن أقلّ من القليل من يعرف سرّ علاقة مدحت باشا بدمشق وأهلها، وعلى الرغم من أن هذا العصر قريب نسبياً إلا أنه مجهول عند الجميع! فما بالنا عندما نتقدم في الزمن أكثر وأبعد؟
من الضرورة أن نعرف سرّ العلاقة بين الوالي والمدينة «دمشق» تحديداً كما هو معروف قلّما تخلد واحداً أو ذكره أو ذاكرته، وحين اطلعت من الصديق الدكتور سامي مروان مبيض على الصورة الأولى من كتابه (مدحت باشا) وجدت كتاباً مهماً نحتاجه ليسد فراغاً حضارياً في المكتبة الوثائقية السورية والحضارية.
جوانب مهمة وحساسة
لا توجد ترجمة أو دراسة علمية لمدحت باشا في المصادر العربية، وهذا ما تأكد للدكتور مبيض وهو يعدّ بحثه هذا، وللحق فإن د. مبيض في دراساته يعالج أكثر الأمور إشكالية، وفي هذا الكتاب الفريد في بابه، من الغلاف يتركك المؤلف أمام تساؤلات:
– خديوي سورية.
– مرحلة مدحت باشا.
– دمشق 1878 – 1880.
الجانب الأول يدفع إلى جوانب تتجاوز الترجمة والحديث عن الحياة، وأن يخصّ مرحلة مدحت باشا، فهذا يعني أنها مرحلة فاصلة سياسياً واجتماعياً، والزمن هو الذي جاء بعد أحداث 1860 الدامية في لبنان وسورية، وفي دمشق تحديداً، والتي خصها مبيض بكتاب توثيقي سابق… ويؤكد مبيض في أكثر من كتاب بأن دمشق هي التي لم تحكم عبر التاريخ من أبنائها، وعلى مرّ الزمان كان أبناؤها راضين لا يسعون إلى الحكم، ولا إلى الانقلاب على الحكم، وحسبهم من كل الطبقة السياسية أن تحقق لهم مصالحهم التي يريدونها اقتصاداً ومجتمعاً وعقيدة أحياناً.
حملته أم حملها.. خدعته أم خدعها
يذكر د.مبيض في المقدمة كلاماً مهماً يستحق الوقوف عنده «المرحلة الدمشقية من حياته هي التي أدت إلى مقتله سياسياً ومن ثم جسدياً، والسبب هو لقب الخديوي الذي أطلق عليه بعض الدمشقيين» تحبباً واحتراماً، أو ربما تعلقاً، أو حتى توريطاً».
مهم هذا الكلام الذي يدفعنا لتتبع سيرة مدحت باشا في دمشق وعلاقته بالدمشقيين، لمعرفة ما إذا كانوا قد حملوه أم خدعوه، هل أرادوا خدمة مدحت باشا أم أرادوا توريطه؟ من المؤكد أنهم لم يهدفوا إلى توريطه في بداية ولايته، وإنما أرادوا مجاملته للحصول على المكاسب، وليس كل الناس من الذين يملكون هذا القدر من السياسة ليقوموا بخداع مدحت باشا وهو من هو، ولكن ودون أدنى شك، وجدت هذه المجاملات صداها عند مدحت باشا لذلك قبلها وعمل وفق ما أضافت لنفسه التوّاقة للانفراد بالسلطة والاستقلال.
دعائم كل زمان وحكم
يذكر مبيض أن العائلات الدمشقية التي ولدت بعد أحداث عام 1860 انتظرت الباشا على مشارف المدينة (عرف الباشا أنه ومن دون دعم هؤلاء وتعاونهم لن يتمكن من فرض سلطته على المجتمع السوري) ويقول كذلك (حافظ على مكانة وزعامة الأمير عبد القادر الجزائري) وثالث الأمور (لم يجر مدحت باشا أي تغيير في هرمية العائلات الدينية الكبرى، وأبقى على جميع امتيازات أبنائها ومناصبهم) وعن المسيحيين بعد أحداث 1860 يقول (جعل مدحت باشا من طمأنة المسيحيين وعودتهم إلى ديارهم هدفاً رئيساً له في سورية، أعلن عن مساواتهم التامة مع المسلمين في الواجبات والحقوق والضرائب، وفتح باب التطوع أمامهم للدخول إلى سلك الشرطة والدرك).
هذه الأسس التي اعتنى بها مدحت باشا تدل دلالة قاطعة على سياسته وبُعْدِ نظره يقول مبيض (عرف الباشا أنه ومن دون دعم هؤلاء وتعاونهم، لن يتمكن من فرض سلطته على المجتمع السوري، فقام بإرضائهم واسترضائهم).
هؤلاء الذين قام باسترضائهم هم الأعيان والأغنياء، رجال الدين المسيحي والإسلامي والعائلات الوجيهة وهذا ديدن السلطات في كل زمان ومكان، لابد لها من أن تجمع حولها العناصر الثلاثة للبقاء:
– المال.
– القوة.
– الدين.
وهذا ما فعله مدحت باشا القادم إلى سورية، بل القادم إلى الدولة العثمانية فمدحت باشا كما وثق مبيض عن صحيفة نيويورك تايمز الأولى الصادرة 13 آب 1877 كتبت (كان ذا ملامح يهودية، له لحية كثيقة سوداء).
رجل بهذه الخبرة انظر كيف يموت!
«الباشا ظل لآخر لحظة من حياته يعوّل على تدخل دولي لأجله، وقد نظر إلى اسطنبول للمرة الأخيرة عند إبحاره على متن سفينة حربية إلى سجنه في الطائف وتساءل: ألم تقم ثورة بعد في اسطنبول.
في 8 أيار 1884 عثر على مدحت باشا في زنزانته مقتولاً».
يكتب عبد الحميد في مذكراته يتبرأ من قتل مدحت باشا، ولكن هذا الرجل المرتبط المسيس، يهودي الأصل، المصلح، صاحب الدستور خانته ذاكرته، وتخلى عنه ذكاؤه، واعتمد على خصومه وخصوم دولته! ورجل الدولة لم يتنبه أن مصالح الدول أهم من مصالح الأشخاص، وأن الدول لن تتدخل من أجله، وأن الثورة لن تقوم من أجله ضد السلطان.
ربما كان مقتله ليس في إصلاحه، وليس بسبب الدمشقيين قد يكون مقتله في تخلي الذكاء والسياسة عنه في مفاصل مهمة، وقد يكون مقتله في اعتقاده أن الدول الحليفة له لن تسمح بإزالته أو قتله..! فهي لن تفعل سوى الوعد إن وصل إلى الحكم والتخلي حين أخفق! والسؤال كم من مدحت باشا في حياتنا السياسية ولا يراجع التاريخ كما يجب؟
كتاب أكثر من مهم لتاريخ سورية ودمشق ومدحت باشا تمت صياغته بشكل موثق يحفظ التاريخ لدراسات لا تحكمها العاطفة.
والكتاب ينقل من الوثائق أن مدحت باشا زعيم الإصلاح كما نعته الغربيون كان يهودي الأب، ولم تكن المسافة أبعد من ذلك وكان إسلامه من أجل الوظيفة والارتقاء، ويرتبط بالدول الاستعمارية، بل كان يعوّل على الدول الأوروبية على أن تكون معه وإلى جواره، وعلى الرغم من أنه لم يكن عثمانياً، ولا يملك الدم العثماني، إلا أن السلاطين أعطوه مكانة فأراد مزاحمتهم والقضاء عليهم كما تروي الوثائق التي أثبتها د. مبيض والتي تظهر أن الأوروبيين وخاصة السفير البريطاني هايارد من ورطوه وتركوه لحتفه..
خداع النفس والموت
رحلة قوية تشبه الألغاز قضاها مدحت باشا، من قتل عبد العزيز، إلى الدستور ومحاولة الهيمنة على عبد الحميد، إلى لقب الخديوية ومحاولة الاستقلال بسورية، بل القضاء على العثمانيين، وهذه التجارب وهو الخبير الذي يزيد عبد الحميد عمراً وخبرة كان من المفترض أن تعطيه حنكة وقوة في الرأي، ولكن هذا لم يحدث في مكانين:
– عند المقربين منه في دمشق حيث كان يفشي سره بالسكر.
– عند الغربيين الذين سلّم لهم بكل ما يملك من عناصر القوة حتى صار بمنزلة العميل.
وحين أراد عبد الحميد التخلص منه كان أكثر ذكاء، فردّ المحاكمة لقتل عبد العزيز وتجنب المؤامرة، حكم بنفيه وسلّمه لخصومه وهذا فعل داهية تعلم من مدحت باشا وتفوق عليه.