قد يكون من الصعب الآن، وقبيل أن ينزاح جزء واف من الستار الذي يغطي المشهد، تحديد السبب المباشر لارتفاع وتيرة العمليات الفدائية التي استهدفت العمق الإسرائيلي في غضون الأسبوعين الفائتين في «الخضيرة» و«بني براك» و«بئر السبع» و«القدس» وآخرها في «ديزنغوت» بتل أبيب، وإن كان السبب البعيد ظاهرا لا لبس فيه، فما يجري هو تعبير عن تجذر شعب راسخ على أرضه، وهو يريد أن يمزق الصورة التي أرادت قمم «شرم الشيخ» و«النقب» تصديرها للعالم عبر إظهار إسرائيل بأنها باتت جزءاً من نسيج المنطقة، بل جزءاً مهماً من هذا الأخير حصل على «توكيل» من الأطراف التي جمعتها القمتان السابقتان، يقضي بقبول قيادته لتحالف في مواجهة إيران التي يراها هؤلاء على موعد مع الصعود لجهة نجاحها في انتهاج سياسات خارجية من النوع الخادم للقدرات الإيرانية الداخلية، ليشكل الفعلان مقدمة لدور إقليمي سيكون هذا «الدمل» الإسرائيلي، في صلب اهتمامه، بل المحور الأساس الذي سيتنامى ذلك الدور عبره.
قد تكون العملية الأبرز التي نفذها رعد فتحي خازم في شارع «ديزنغوت» بتل أبيب يوم 7 نيسان الجاري، هي الأهم من بين العمليات التي جرت في غضون الأيام الماضية، والأهمية لا تتأتى هنا من الحصيلة التي أدت إليها تلك العملية فحسب، بل تتأتى أيضاً من عوامل أخرى أبرزها، أن المنفذ من مخيم جنين، أي يعود في أصوله إلى مدينة حيفا أو جبال الرمل وهي من ضمن الأراضي التي يتعمد الاحتلال توصيفها بـ«أراضي 1948»، ونزحت عائلته منها إلى المخيم الذي أنشئ عام ١٩٥٣ قرب مدينة جنين في الضفة الغربية، وتلك التسمية «أراضي ٤٨» هي محاولة إسرائيلية لفسخ الصلة ما بينها وبين الأراض التي احتلت في العام 1967، حيث تستند السياسات الإسرائيلية على فرضية تقول إن الفارق ما بين الإثنين، وهو جيل، من المفترض فيه أن يكون قد أنتج حالا من «الانصهار» داخل بوتقة التعايش التي رسمت له، وهو بذلك يصبح أكثر مطواعية لجهة ذوبان الهوية وتلاشي الانتماء، ثم إن القائم بالفعل ينتمي إلى كتائب «شهداء الأقصى» الذراع العسكرية لحركة «فتح» التي أطلقت شرارة العمل المسلح في اليوم الأول من العام 1965، قبيل أن تذهب منظمة التحرير الفلسطينية، التي تشكل الحركة عمودها الأساس، نحو منزلق «أوسلو 1993» الذي قادها للتخلي عن ذلك العمل لمصلحة تبني خيار المفاوضات الذي أثبت «عقمه»، فيما التحاليل أثبتت أن الأخير، أي العقم، هو من النوع الوراثي الذي يستحيل إيجاد عقاقير ناجعة له، والمؤكد هو أن الفعل، أي انتماء رعد لذينك النسيجين: 1948 و«فتح»، له دلالات مهمة قياساً للصورة التي ارتسمت في غضون السنوات السابقة بفعل مؤثرات عدة لعل من بعضها الإعلام، ومفادها أن حركتي «الجهاد الإسلامي» و«حماس» هما اللتان ترفعان اليوم، لوحدهما، شعار «فل الحديد بالحديد».
تشير الصورة المرتسمة على ضفاف المشهد، خصوصاً الإقليمية منها، إلى متغيرات كبرى، وعلى الرغم من أنها ليست جديدة ولا مفاجئة قياساً إلى محطات «شرم الشيخ» و«النقب» وما سبقهما، إلا أنها كانت فاقعة بدرجة تميل لأن تصبح سكينا يراد به تمزيق هذا «الجنين» النامي في رحم «جنين» هذه المرة في دلالة من شأنها أن تزيد من بواعث القلق على الضفة الإسرائيلية ومن لف لفها، فما يجري بالنسبة لهؤلاء الأخيرين، أي الملتفين باللفيف، يهدد بنسف مشاريع باتت مراميها واضحة، خصوصاً أن الفعل يجري في ظل متغيرات دولية كبرى وهي من النوع الذي يوحي بإمكان حدوث انقلاب في التوازنات العالمية تقود من حيث النتيجة إلى متغيرات في خرائط التراصف حول العديد من القضايا التي ستكون القضية الفلسطينية من أبرزها.
لربما قرأت القيادة الفلسطينية الحالة السابقة على أنها لم تبلغ، ولربما لن تبلغ وفق تلك القراءة، درجة الغليان التي تمكّن من الاستثمار السياسي فيها، ولذا فقد ذهب الرئيس محمود عباس إلى إدانة «قتل مدنيين إسرائيليين» لأنه لن يؤدي إلا «لمزيد من تدهور الأوضاع»، وإذا ما كان ذلك مبررا، لناحية انتهاج تلك السلطة سياسة واقعية تدرك من خلالها أن مواقف نقيضة لتلك المواقف قد تدفع إلى انهيار مراكز السلطة القائمة ما بعد أوسلو 1993، ما يعيد الصراع إلى سياقات المرحلة السابقة لهذا الأخير، وتلك مسألة بات من الملح البت فيها عبر حوار وطني تحضره كل الفصائل والتيارات الفلسطينية جنباً إلى جنب «فتح»، فإن من غير المبرر أن تذهب تلك القيادة نحو حال من الانزياح العلني لسلطات الاحتلال الأمر الذي يمكن تلمسه، صارخاً، في التصريحات التي أدلى بها الوزير حسين الشيخ في أعقاب عملية تل أبيب، والمضي قدماً في هكذا سياق سيؤدي إلى مزيد من التصدع الحاصل في السطح السياسي الفلسطيني، على الرغم من أن الشارع يبدي انزياحاً نحو رأب ذلك الصدع في لحظة كان يمكن أن يكون شعارها «هبت رياحك فاغتنمها».
اللافت هنا هو أن كلاً من حركتي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» تجنبتا التصعيد في سلوك واضح على الرغم من أن فعلاً مستجداً كهذا لديهما في مثل حالات كهذه، وما صدر عنهما من تصريحات لا يعدو أن يكون لحفظ ماء الوجه، والمؤكد هو أن ذلك الفعل كان نتيجة للاستدارة التركية التي عمدت أنقرة من خلالها مؤخراً إلى جعل تحالفها مع حركات «الإسلام السياسي» من الماضي، ظهر ذلك من خلال سعي الأخيرة لتطبيع علاقاتها مع تل أبيب حتى أن الرئيس التركي كان قد أجرى اتصالاً بنظيره الإسرائيلي مطلع شهر نيسان الجاري أدان من خلاله «الهجمات الإرهابية الفلسطينية»، والراجح هو أن تلك الاستدارة ناجمة عن سعي تركي للحصول على جزء من الكعكة التي تطهى حالياً في «فرن النقب»، وهو، أي السعي التركي، يلحظ حالا من التراجع في الاقتصاد التركي بعد أن خسرت ليرته نحو نصف قيمتها في غضون الأشهر القليلة الماضية.
كان الإعلان الإسرائيلي عن منفذ عملية تل أبيب يقول: «يلبس قميصاً أسود، وعلى ظهره حقيبة زرقاء»، فيما الثابت أن نبض الشارع الفلسطيني بات يميل اليوم لأن يرتدي كل شبانه قمصانا سود وعلى ظهورهم «حقائب» زرق.
هذا يصلح لأن يكون شعار مرحلة.