اقتصاد

الخطيئة الحقيقية

| فراس القاضي

لا أحد ينكر أن تدعيم أي حديث عن أي إنجاز بالأرقام يزيده مصداقية، ويقلل من التكهنات، ويضع المختصين أمام ما يمكن نقاشه وتقييمه، وللأمانة ليس لدينا أي نقص في هذه الناحية، بل على العكس تماماً، صار لدينا تخمة في الأرقام والنسب الدقيقة جداً، كأن تكون نسبة إنجاز أحد المشروعات 32.43 بالمئة (يخزي العين)، وأن الإنفاق في مشروع آخر وصل إلى 366.498.263 ليرة، والـ263 ليرة قبل الـ366 مليوناً (لأنو الأمانة ما حملتها جبال).

لكن.. هل يستطيع أحد، وأحد هنا تشمل المختصين والصحفيين والخبراء والمتلقين، أن يتحقق من هذه الأرقام؟ من صحتها؟ أعتقد أن الجواب لا، لذا علينا أن نأخذها كما هي، نصدقها أو نكذبها، وحتى من يريد دراستها بشكل علمي، سيلاقي صعوبة كبيرة، أو استحالة، بسبب عدم توافر ما نسميه في الصحافة الاستقصائية (مصادر مفتوحة) في مؤسساتنا، نستطيع من خلالها القيام بدراسة تحليلية لرقم ما، فصار باستطاعة أي مدير، أو منفذ مشروع، أن يلقي إلينا بالرقم الذي يناسبه، والذي من الطبيعي لن يظهره بمظهر المقصر، وشخصياً خلال سنوات عملي الصحفي كنت حاضراً على الكثير من الجولات التفقدية لمشروعات تستطيع تخمين نسبة الإنجاز المنخفضة جداً فيها من النظرة الأولى، لنفاجأ بعدها خلال اجتماعات تتبع التنفيذ، بأن نسبة تنفيذ ذاك المشروع الذي لم نرَ فيه سوى غرفة الحارس الفارغة (لأن الحارس غالباً يعمل في مكان آخر خلال ساعات عمله في المشروع لكنه لم يجد من يخبره بأن هناك جولة) 54.92 بالمئة!

ربما نسب إنجاز المشروعات وإنفاقها وما يشبهه، من الصعب قليلاً على غير المطلع والمختص تقييم أرقامها، لكن ماذا عن أرقام المشروعات الاقتصادية؟ ماذا عن مئات مليارات الليرات لمشروعات اقتصادية تم ويتم تشميلها على قوانين الاستثمار؟ أين هذه المشروعات؟ ولماذا لم نلمس أي أثر لها على الأرض؟ ولماذا لم ينخفض سعر أي مادة على اعتبار أن زيادة العرض تخلق تنافساً يؤدي إلى تخفيض الأسعار؟ أين صبّ وفر إعادة توزيع الدعم الذي قُدر بآلاف المليارات؟

طرحنا كل هذه الأسئلة لنصل إلى السؤال الرئيسي: لماذا تغلقون أبوابكم وتخفون أرقامكم عن الصحفيين؟ وبأي منطق وعلى أي أساس تطلبون منهم الحديث عن موضوعات وسياسات معينة تحتاج إلى شرح لكن من دون أرقام بالإمكان تحليلها وتقييمها، بل النيل منهم إن أخطؤوا؟

صحفيو اليوم يعملون بأقل معلومات ممكنة، وأقل أرقام، وأصعب أنواع تواصل، وأقل حماية، وأضعف أجور قياساً بمجهودهم المضاعف، وخاصة العاملين في الشق الاقتصادي الذين يعتمد عملهم بشكل شبه كلي على الرقم، ونقصد الرقم الحقيقي، وليس الرقم الذي يحصلون عليه من إحدى المؤسسات أو الوزارات كجواب نهائي لا يمكن التأكد منه وبعد عدة محاولات قد تصل إلى مرحلة إراقة ماء الوجه للحصول على المعلومة. إن كانت أرقامكم صحيحة، فلِمَ تخفونها وتمنعون الوصول إليها؟

باختصار، يتم التعامل مع الصحفيين كأعداء من نوع خاص، والخصوصية تكمن في أننا أعداء مطلوب منهم أن يدافعوا عمن يستعديهم بلا مبرر.

هذه هي الخطيئة، أو بتوصيف أدق، هذه خطيئة من الخطايا، أما تسرب حديث أقل من عادي إلى الجمهور بسبب خطأ تقني، فهو خطأ عادي جداً، يكاد لا يذكر في زحمة الخطايا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن