سبق أن كتبت مقالات عدة في صفحات «الوطن» السورية حول احتمالات عودة العلاقات السورية – التركية، وهذا الموضوع على الرغم من أنه ملف شائك ومعقد وذو شجون، لكنه حسب رأيي ممر إجباري لأنقرة.
الحقيقة أيضاً أنه كلما كتبت عن هذا الموضوع كنت أواجه بسيل من الأسئلة حول إمكانية ذلك، وكان البعض يذهب مذهباً عاطفياً في الرد بالقول: إنه لا يمكن الوثوق بالأتراك، وبالرئيس التركي رجب أردوغان فهو مراوغ، وغير صادق، ومن جرب المجرب عقله مخرب، إضافة إلى أنه لدى أردوغان عقدة الرئيس الأسد الذي واجه مشروع الإخوان «العثماني الجديد»، وأسقطه في سورية بالتعاون مع حلفائه في طهران وموسكو.
أتفهم هذا الجانب تماماً، وهو جانب محق لدى كل سوري، وجرح عميق غائر في جسد سورية، ولكن هذا الجرح العميق ساهمت فيه الأموال العربية بالدور الأخطر وشاركت مع تركيا في وقوع هذه الكارثة الإنسانية على مستوى المنطقة، والتي كانت ومازالت أقذر حرب تخاض على شعب ودولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الآن، ما الذي تغير؟ ولماذا تكثر التقارير الصحفية في الصحف التركية عن قرب تحول السياسة التركية تجاه دمشق، وآخرها تقرير صحيفة حرييت بتاريخ 4 نيسان الجاري الذي تحدث عن نقاشات تدور في الأوساط الحاكمة التركية بشأن سورية، وأنه آن الأوان لفتح صفحة جديدة مع دمشق ولماذا تبدو الظروف الآن مؤاتية أكثر والاحتمالات ممكنة لعودة العلاقات بين دمشق وأنقرة؟
سأحاول هنا تلخيص الأسباب التي أرى أنها تقف خلف ذلك:
1- من حيث المبدأ لا يمكن لتركيا تحسين العلاقات مع دمشق قبل فتح بوابات العلاقات مع دول عربية مثل مصر والسعودية والإمارات، وقبلها إسرائيل، باعتبار أن الدول العربية الأساسية المذكورة مهمة لأسباب سياسية، واقتصادية، وأما تل أبيب فهي مفتاح قلب واشنطن، ولا يمكن البدء بدمشق لعدم إثارة أميركا التي لا تزال تقف بقوة ضد تطبيع العلاقات مع سورية، فمواقف إدارة جو بايدن واضحة بهذا الشأن، وهنا أحاول أن أفسر، ولا أبرر، السلوك التركي!
2- إن الانفتاح على هذه الدول العربية من دون دمشق لا يمكن أن يفيد أنقرة بالشكل المطلوب، لأن سورية هي البوابة التجارية الاقتصادية الأهم لأنقرة عبر الطريق الواصل فيها بين معبرين باب الهوى مع تركيا ونصيب مع الأردن، والطرق البديلة بحرياً لإيصال البضائع التركية للسوق الخليجية طويلة ومكلفة، وقد جربت تركيا ذلك طوال سنوات، وفي ضوء الأزمة الاقتصادية العالمية الآن تصبح الأمور أكثر تكلفة وتعقيداً على أنقرة، وغيرها من العواصم.
3- مهما كانت خلفية أردوغان الإيديولوجية كما يتحدث البعض، لكن في النهاية هناك مصالح عليا لا يمكنه تجاوزها، هو أو غيره، والانتخابات الرئاسية والبرلمانية الحاسمة في عام 2023 لم تعد بعيدة، وبالتالي همه الأساسي هو تحسين الوضع الاقتصادي للأتراك الذي يتدهور بشكل متسارع وكبير، وهنا لابد من الإشارة إلى أن المناطق الحدودية مع سورية من لواء إسكندرونة إلى ماردين، تعاني اقتصادياً بشكل هائل جداً، وهذه المناطق التي توقف قسم كبير منها عن تصدير منتجاته الزراعية بسبب الحرب في أوكرانيا، إذ كان 90 بالمئة من إنتاجها الزراعي يصدر لأوكرانيا، إضافة لإغلاق أسواق الخليج، ما أصابها بكارثة اقتصادية حقيقية، وحتى أن بعض المنتجات التي كانت تُصدر لروسيا توقف أيضاً، وإذا أضفنا لذلك تدهور العلاقات مع دمشق، وتعطل تجارة الترانزيت، وتدمير الكثير من الشركات الأهلية، يمكننا أن نرى الصورة بشكل أوضح، وبالمناسبة فإن نسبة الأصوات في أي انتخابات قادمة تصل إلى ما بين 10- 13 بالمئة في هذه المناطق، وهي نسبة مرتفعة لا يمكن للحزب الحاكم غض النظر عنها، وعن مشاكل الأتراك هناك.
4- إذا افترضنا أن قرار أردوغان بفتح صفحة جديدة مع دمشق هو تكتيكي، وليس إستراتيجياً، دعونا ننظر إلى حجم مصالح تركيا الاقتصادية، وأين هي؟ سنجد أن 70 بالمئة من الاقتصاد التركي ومصالحه مرتبطة بآسيا أي الصين وإيران وروسيا ودول آسيا الوسطى، وأن 30 بالمئة مرتبط بأوروبا، و75 بالمئة من هذه مع ألمانيا، أما بقية الدول فالأرقام متواضعة، وبالتالي فإن سورية تبدو هنا مفتاحية بالنسبة لتركيا مستقبلاً بحكم موقعها وعلاقاتها الوثيقة مع موسكو وبكين وطهران.
5- ملف اللاجئين السوريين الذي تحول إلى ملف داخلي تركي تستخدمه المعارضة ضد أردوغان وحزبه، للتدليل على إخفاق سياساته، ونتيجة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في تركيا، بدأ المواطن التركي يُحمل الحكومة المسؤولية عن جلب هؤلاء اللاجئين الذين تسببوا حسب رأيه، في أخذ فرص عمل الأتراك، ورفع آجار العقارات وأسعارها الخيالية حالياً، وبالتالي انقلب السحر على الساحر، وتحولت ورقة اللاجئين إلى ورقة ضغط على أردوغان بدل من أن تكون ورقة لصالحه، وأما ما يتحدث عنه البعض من مشروع توطينهم في الشمال، فهذا غير ممكن لأنه مكلف جداً اقتصادياً، ولا يمكن لتركيا تحمل هذه الأعباء الهائلة، والحل هو بالتباحث مع دمشق لإعادتهم تدريجياً باتفاق بين الحكومتين، كما أن التجارة بقضية اللاجئين السوريين انتهت.
6- المسألة الكردية: وهي أحد أهم الملفات المهمة والمشتركة بين دمشق وأنقرة، إذ ثبت بالنسبة للعاصمتين أن ميليشات «قسد» في سورية وحزب الشعوب الديمقراطي في تركيا، وجهان لعملة واحدة، وأن هذين التنظيمين اللذين يتاجران بهموم بسطاء الأكراد، وبعض حقوقهم التي يطالبون بها، ليسا إلا أداة أميركية إسرائيلية، والأحداث تثبت في كل يوم عمالة وارتباط قيادات هذين التنظيمين بالخارج منها تنظيم «قسد» الذي يدعي الحرص على السوريين، يحاصرهم بلقمة عيشهم وخبزهم في شهر رمضان، ويقتل ويعتقل السوريين في كل مكان، ويسرق الثروات، ويحرس المحتل، فهو عميل أميركي إسرائيلي، مهما تدثر بلباس العلمانية والانفتاح، وأما حزب الشعوب الديمقراطي الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني في تركيا فقد طالب قبل أشهر في البرلمان التركي بإدانة الصين لاضطهادها الإيغور، تساوقاً مع الموقف الأميركي، وبما يثبت مرة أخرى أنه عميل أميركي رخيص أيضاً، هنا تبدو المصلحة العليا للأمن القومي للبلدين أكثر من مهددة، وواشنطن تلعب على هذا الأمر، فأحزاب المعارضة التركية هي الحارس الأمين على هذه الوديعة الأطلسية داخل تركيا ومشروع «كردستان الكبرى» لا يزال قائماً، ويجري العمل عليه، وما لم يواجه، فإنه مشروع خطير جداً لتقسيم بلدان المنطقة، إنه مشروع «إسرائيل الثانية».
7- تبدو الحالة الشعبية التركية مؤاتية لهذا التحول لأسباب كثيرة أشرنا إلى أهمها أعلاه، أكثر من 90 بالمئة من القوى السياسية التركية، والجمهور التركي سيؤيد هذا الانفتاح على دمشق، ويرحبون به بعد الكارثة التي تسببت بها سياسات الحزب الحاكم خلال عقد من الزمن، والتي ثبت فشلها وسقوطها، وإذا أضفنا لذلك أن مواقف الأحزاب التركية المعارضة تزايد على حكومة أردوغان بهذه الورقة، وتطرح موضوع إعادة اللاجئين والحوار المباشر مع الرئيس الأسد، فمن الطبيعي أن يسبقهم باستثمار هذه الورقة.
8- إن العامل الأهم زيادة على ما ذكرته أعلاه، هو إخفاق مشروع إسقاط الدولة السورية، وهنا يدرك الجميع عرباً وأتراكاً، وغيرهم أنهم هم الذين غدروا بالرئيس الأسد وطعنوه في ظهره، وأنه صمد مع جيشه وشعبه ودفن مشروع تقسيم المنطقة وسورية، وتغيير خريطة التوازنات العالمية، وعلى الرغم من أن حجم الهجوم الشخصي عليه، وعلى سورية كان هائلاً، لكنه صبر، وراهن على شعبه وجيشه، وأثبتت الأيام حكمته ونظرته الواقعية، وتقديراته الإستراتيجية الصحيحة، ودقة نظرته المستقبلية.
إن ما تحدثت عنه هو تحليل لما يراه الأتراك ومصالحهم، لكن دمشق التي تتمتع بالحكمة والواقعية السياسية، ستلاقي هذه التحولات في المنطقة، بما فيها العلاقة مع أنقرة، منطلقة من مصالحها الوطنية العليا، وأولوية انسحاب جيش الاحتلال التركي من الأراضي السورية، ووقف دعم الجماعات الإرهابية في إدلب، وحل موضوع اللاجئين السوريين عبر الحكومة السورية الشرعية، ووقف دعم المنصات الإعلامية التي تهاجم صباح مساء بلدها وشعبها، وتركيا تدرك أنهم عملاء صغار، وكذلك الابتعاد عن التدخل في الشأن الداخلي السوري سواء في لجنة مناقشة الدستور أم غيره من القضايا، فالسوريون يقررون مستقبل بلدهم لوحدهم، كما سيقرر الأتراك مستقبل بلدهم في انتخابات 2023.
كتب النائب التركي عن حزب الشعب الجمهوري المعارض مصطفى بالباي، في صحيفة «جمهورييت» أمس الأربعاء مقالاً تحت عنوان «دور سورية آتٍ لفتح صفحة جديدة»، ركز فيه على أن مقاربة حكومة أردوغان مع دمشق كانت خاطئة، إذ اعتقدت الحكومة أنه يمكن الاكتفاء بالبوابة الاستخباراتية الأمنية من دون الخوض في قضايا أخرى، وبرأيه أن هذه المقاربة غير مقبولة، ووفقاً لمعلوماته الموثوقة من مصادر مقربة جداً من السلطة في تركيا، فإن البوابة الإنسانية ستكون البوابة الجديدة لنسج علاقات جديدة أمنية وعسكرية، ومن ثم سياسية، ونصح النائب بالباي الحكومة التركية بعدم بيع العلاقات مع دول الجوار من أجل مصالح حزبية ضيقة، أو مصالح أجنبية، بل لابد من وضع مصالح تركيا أولاً، وأشار إلى أن الرجوع عن الأخطاء فيه مصلحة للجميع.
إن تقديري وفقاً لما أرى أن الانفتاح على سورية قادم من البوابة التركية، وهو ممكن وواقعي لأسباب أشرت إلى جزء منها، وقبل الانتخابات التركية 2023، ودمشق كما أفهم ستلاقي هذه الجهود إذا تحققت مصالح سورية الأساسية والمعلنة والمحقة، وما على الذين راهنوا على سقوطها وعلى الأجنبي، إلا أن يبحثوا عن أول مزبلة ليرموا أنفسهم فيها، صبر السوريين الأسطوري سيؤتي ثماره، حتماً، لأننا على الجانب الصحيح من التاريخ، وإن غداً لناظره قريب.