قضايا وآراء

تحولات داخلية لا تنتظر نظائر إقليمية لها

| عبد المنعم علي عيسى

عززت تداعيات الحرب الأوكرانية مساراً، لم يكن بجديد، لكنه أضحى عبر هذي الأخيرة يتسم بزخم أكبر، فمسار الانفتاح العربي على دمشق كان حاضراً منذ عام 2018، ثم طاغياً في غضون العام الفائت وصولاً لمحطته الإماراتية، شهر شباط الماضي، التي عززت الكثير من الآمال بوجود تحول إقليمي لا يقتصر على الإمارات وإن كانت الأخيرة تسعى لأن تكون رأس حربة فيه لاعتبارات عدة بعضها يتعلق بالداخلي الإماراتي، وبعضها الآخر له علاقة بالصعود الإقليمي للدور الإماراتي الذي يمكن تلمسه بوضوح منذ عقد من الزمن.

شكلت المحطة الإماراتية آنفة الذكر دفعاً كبيراً في سياقين اثنين، أولهما تعزيز الآمال بعودة التفاعل ما بين دمشق وبين محيطها العربي الذي سيؤسس ولا شك لحالة لها علاقة باستعادة الاثنين، دمشق والمحيط، لتوازنهما الضروري للولوج في مرحلة جديدة قادرة في مفاعيلها على طي مرحلة كانت عاصفة بكل المقاييس، وثانيهما هو الآمال التي استولدتها بإمكانية لملمة «الجرح» الاقتصادي الذي بدا طاغياً على المشهد السوري حتى ليكاد يحتل كامل هذا الأخير، وفي السياق بدت تحولات على الشارع السوري كانت لافتة، ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، وهي أفضت بهذا الأخير إلى حال من التململ تدعوه لأن يضع نصب عينيه مداواة ذلك الجرح الذي أضحى «متقيحاً» بدرجة مقلقة، وتدعوه أيضاً لرفض كل «المبررات» ومعها «نظريات الحصار» ثم «العقوبات» المفروضة، والتي كانت الأشد مما تعرضت له دولة بحجم وقدرات دولتنا، ولربما شكل ذلك اليوم مدعاة لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية التي بدأت مع التحول لاقتصاد السوق الذي أدى من حيث النتيجة إلى تدمير الطبقة الوسطى ثم إلى نمو تيارات «ليبرالية» تتبنى أفكاراً أقل ما يقال فيها إنها شديدة الوطأة على اللحمة الوطنية، ولربما كان الحل هنا، والحال هذي، بالعودة إلى اشتراكية اجتماعية تكون ما «فوق حزبية» لتفادي هذا الواقع الذي يعيشه مجتمعنا والذي ينذر بأخطر مما هو حاصل، حيث من الممكن للعودة آنفة الذكر أن تفضي لخلق كتلة وطنية تنصهر في بوتقتها أغلبية المكونات لتعاود من جديد استعادة إيقاعها الذي سبق ونجحت من خلاله في تقديم الكثير من «الألحان» التي قادت إلى «هدوء الجمهور» ولاحقاً إلى تنامي القدرة عند هذا الأخير في تلقي الفعل وظهور رد الفعل لديه.

بعد مرور شهرين على المحطة الإماراتية نجزم أن نظرة الشارع لها، والآمال التي ابتناها عليها، قد أصابها العطب، فالأخير يرى أن التعاطي الإماراتي مع الحالة كان قد جرى على أساس أنها «مستقرة» في حين كان من الواجب، وفق تلك النظرة، التعاطي معها كحالة «إسعافية» تستوجب القيام بأفعال غير تلك التي قام بها على امتداد الستين يوماً التي تفصلنا عن تلك المحطة، والراجح هنا هو أن «ذراع نقل الحركة» الإماراتي يبدو غير قادر، لوحده، للقيام بعمل من شأنه رسم ضوابط كفيلة بإخراج «الحالة السورية» من وضعها الراهن، وعدم القدرة هنا لا يعود لأسباب اقتصادية فحسب، بل لأسباب سياسية أيضاً، وبمعنى آخر لا بد لذلك الذراع من أن يتشابك مع ذراع أقوى كالذراع السعودي الذي يبدو متريثاً، حتى الآن، في الذهاب بعيداً في هكذا مسار، وإن كان فعل التريث الآن يستحضر تقليب الأمر على كامل الوجوه التي بدت وكأنها «مكعبٌ» يحمل العديد منها.

في استشراف آفاق المعاينة السعودية تبدو المملكة وكأنها تعيش حالاً من التحول في تموضعاتها السياسية، بل وحتى الهوياتية الفكرية مما يمكن النظر إليها من خلال تصريحات سفير المملكة في لندن خالد بن بندر الذي قال أواخر شهر آذار الماضي من على منبر جامعة أوكسفورد: إن «قيادة المملكة ليست دينية، وإنها وصلت إلى الحكم بعد انتصارها على قبائل أخرى»، وهي، أي تلك التحولات السياسية، متعددة الأسباب والمرامي، ولعل من أبرزها هو حالة الاحتقان التي تعيشها المملكة مع حليفها الأميركي بفعل محطات كانت في جلها وراثة من المرحلة «الترامبية» التي عمد الأخير فيها إلى إرسال إشارات غالبا ما كانت تخرج عن اللياقة الدبلوماسية، والحالة إياها بدت واضحة اليوم في الإدارة الأميركية الحالية التي يرفض رئيسها حتى الآن التحدث مع ولي العهد محمد بن سلمان بشكل مباشر وللأمر دلالاته المهمة، والمؤكد هو أن حالة الاحتقان كانت قد أدت إلى خروج «بثورها» إلى السطح مباشرة عند أولى المؤشرات التي توحي بتراخي القبضة الأميركية على الأنظمة التي تدور في فلكها، وذاك ظهر بوضوح إبان التعاطي الخليجي عموماً مع الإملاءات الأميركية القاضية بوجوب ملء النقص الحاصل في إمدادات النفط بعيد فرض الغرب عقوبات صارمة على روسيا في أعقاب قيام الأخيرة بعمل عسكري تهدف من خلاله إلى تعزيز أمنها ومحاولة التمكين له بالدرجة الأولى، ومنها أيضا، أي من تلك الأسباب، وصول قارب التفاهمات الإيرانية مع الغرب إلى شواطئ الرسو التي بات على مقربة أمتار منها، وهذا إذ دفع بالمشاورات الإيرانية السعودية قدما إلى الأمام، لكنه سيدفع بالمملكة إلى إيجاد جدر تحصين عربية للتفاهمات التي يمكن أن تفضي إليها تلك المشاورات، ودونها، أي من دون تلك الجدر، ستصبح الأخيرة من النوع المخل بالتوازنات القائمة في المنطقة.

في خلفية المشهد أيضاً يمكن القول إن المسعى السعودي – الإماراتي الرامي إلى ضرب «المشروع الإخواني» الذي سوقت له تركيا في بداية «الربيع العربي»، حقق «قفزات» مهمة كانت بدورها قد ارتكزت إلى عطب بنيوي داخلي في مكونات ذلك المشروع، ولا أدل على تداعي هذا الأخير من السعي الذي راحت أنقرة تبديه مؤخراً تجاه القاهرة والرياض وأبو ظبي، وهو سيدفع بالتأكيد لاحقاً إلى نظير له باتجاه دمشق، وإن كان هذا الفعل الأخير أعقد بما لا يقاس قياساً لاعتبارات عديدة، وعليه فإن استعادة دمشق لمحيطها الطبيعي باتت مسألة وقت، ولربما سيكون من الصعب على أردوغان دفع أثمانه النفسية والمادية، الأمر الذي يعني أن «الضباب» التركي لن ينقشع إلا بعيد الانتخابات التركية المقررة العام المقبل، لكن ذلك لا يعني ممارسة فعل الانتظار، فالحمولات التي أفرزتها السنتان الماضيتان كانت من الثقل بحيث تهدد بانكسارات قد تكون من النوع الذي لا «جبيرة» له.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن