قضايا وآراء

ألمانيا بين التغيير أو البقاء كما كانت

| تحسين الحلبي

ذكرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية قبل أسبوع أن رئيس حكومة ألمانيا أولاف شولتس فاجأ العالم حين أعلن تخصيص ميزانية بقيمة 100 مليار يورو لزيادة قدرات الجيش الألماني وهذا الإجراء لم تكن توافق عليه واشنطن التي تحتفظ منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945 بقواعد عسكرية في أراضي ألمانيا، لو لم تدرك أن توقيت هذا القرار سيخدم الحرب الأميركية والأطلسية على روسيا، كما قرر شولتس تخصيص ميزانية سنوية للجيش بقيمة 70 إلى 76 مليار يورو وهي تشكل تقريباً ضعف ما تنفقه فرنسا سنوياً على جيشها.

لقد رأت معظم مراكز الأبحاث السياسية الأوروبية أن ألمانيا قامت بتغيير كبير في السياسة التي اتبعتها في الماضي وقررت الدخول إلى ساحة البحث عن النفوذ بوساطة القوة العسكرية وليس بوساطة القوة الاقتصادية التي اعتادت على توظيفها لخدمة مصالحها في الساحة الدولية.

لكن هذا لم يمنع من ظهور بوادر انقسام في أوساط رجال الفكر والسياسة الألمان التي بدأت تشق طريقها حول هذا التغيير السريع والواسع في السياسة الخارجية الألمانية، فالخبيرة بشؤون ألمانيا السياسية وعضو المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية كلاوديا ماجور، تقول: «نحن بحاجة إلى إجراء تغيير في طريقة تفكيرنا الآن وامتلاك ألمانيا للقوة العسكرية مطلوب لكي تحقق به ألمانيا دوراً في الساحة الدولية رغم أن ألمانيا ليست في موقع القيادة في الساحة الدولية بل انجرت إلى هذا الدور».

وبالمقابل ترى وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بايربوك وهي من حزب الخضر شبه اليساري أن «هذا التغيير يقلقها»، وتصفه بـ«المؤقت وليس الدائم والأساسي» وتعرب عن خشيتها من أن يصمت الذين يحملون وجهة نظرها هذه لأنه يتعين عليهم ألا يصمتوا طالما كانوا يدافعون عن المحافظة على العلاقات مع موسكو وعدم التفريط بها.

ثمة من يحذر من أضرار هذا التغيير على المستقبل الاقتصادي لألمانيا لأن أحد أسباب تزايد القدرة الصناعية الألمانية جاء بسبب شراء الغاز بثمن رخيص من روسيا وهذا ما ساعد ألمانيا على المنافسة في الأسواق الاقتصادية وبلغ عدد من وقع على مذكرة ترفض هذا التغيير الذي يقوده شولتس في السياسة الألمانية تجاه روسيا 45000 من الألمان حتى الأسبوع الماضي، ويرى محللون سياسيون ألمان أن سياسة شولتس الجديدة هذه ستؤدي إلى انقسام حاد بسبب المعارضة الشعبية ومعارضة بعض الأحزاب التي تشارك في حكومته الائتلافية ويبدو من الواضح أن هذا الموضوع وما سينتج عنه من تطورات مقبلة سيرسم صورة ألمانيا بشكل يغاير ما عهدته في السابق، فطوال مراحل وجودها منذ الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، كانت ألمانيا في القرن الماضي تشن حروبها بشكل مضاد لبريطانيا وفرنسا وتتنافس معهما على فرض النفوذ والسيطرة الاستعمارية وخاصة في الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمتها في الحربين فرضت عليها دول التحالف المنتصرة شروطاً تحد من قوتها العسكرية وتحول من دون فرض أي نفوذ لها إلا بموافقة واشنطن وحلف الأطلسي الذين فرضوا عليها الانضمام له، ويبدو أن حلف الأطلسي يسعى الآن مع واشنطن إلى فتح باب واسع لها لاستغلال قدراتها العسكرية واتضح أن سياسة شولتس ضد روسيا ستجعلها جزءا من السياسة الغربية الأميركية وهذا ما يخشاه الجمهور الألماني لأنه سيعيد انخراطها في حرب أوروبية ثالثة يستغلها أعداؤها السابقون ولا أحد يمكن أن يضمن كيف ستكون نهايتها على أوروبا والعالم.

ولذلك يرى جزء كبير في الجمهور الألماني أن ألمانيا ليست بحاجة لزج الشباب الألماني بحرب من هذا القبيل ضد روسيا وأنها غير مضطرة للتجاوب مع رغبة الولايات المتحدة وبريطانيا.

ثمة من يرى أن هذا التجاوب سيثير مخاوف فرنسية من دور بريطاني أميركي ألماني يضعف فرنسا ودورها في أوروبا والنظام العالمي، ويخلق توازناً في غير مصلحتها وخاصة بعد أن حققت العلاقات الفرنسية الألمانية تقارباً واتفاقات كثيرة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل أعوام كثيرة ومنها اتفاق بناء جيش أوروبي على هامش الحلف الأطلسي وهو ما تعده واشنطن تقليلاً لدور ومهام الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة بنفسها.

يبدو في النهاية أن أوروبا وليس بريطانيا والولايات المتحدة هي التي ستدفع ثمن السياسة الأميركية التي تفتح الباب أمام ألمانيا لاستغلالها في الظروف الجديدة بين روسيا وأوكرانيا على حساب فرنسا التي مالت إلى ما يشبه الدور المتردد بالانخراط المباشر أو المتصاعد في المخطط الأميركي المعد لاستغلال تطورات المواجهة بين روسيا وأوكرانيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن