ثقافة وفن

خالد معاذ.. موثق التراث الإبداعي … الشام في دمشقها سر جمال لا يقدّره إلا من عاش روعة الأشكال … وثّق الآثار والمشاهد الأثرية فكان راصداً ومدوّناً

| سعد القاسم

جمع خالد معاذ (1904 – 1989) بين الفن والبحوث العلمية والأثرية، حيث شاركت آلة التصوير رسومه في تقديم رؤية فنية خاصة عنيت بتوثيق التراث المعماري وما في البيوت من تزيينات داخلية وزخارف من جهة، والأزياء الشعبية والصناعات والحرف اليدوية من جهة ثانية. وهو ما يجعل لوحته (الفوتوغرافية والتشكيلية) تمتلك اليوم أهمية استثنائية بحكم كونها وثيقة عما اختفى، أو بدأ يختفي.

التكوين والعشق

درس خالد معاذ في مكتب عنبر بدمشق، وانتسب للمعهد الفرنسي للآثار والفنون الإسلامية الذي تأسس في قصر العظم بدمشق عام 1922، حيث تعلم أصول الرسم على يد الرسام الفرنسي دوفال. وزامل عبد الوهاب أبو السعود وشاركا معاً أواخر العام ذاته بمعرض في القصر لرسوم القاشاني الدمشقي. في العام التالي وصل إلى دمشق جان سوفاجيه الباحث المستشرق الذي ترك مؤلفات مهمة عن الفن الإسلامي والآثار السورية فشاركه خالد معاذ في دراسة الأبنية الأثرية والفن الإسلامي في بلاد الشام، وبالأخص دمشق، ونشر أول بحث له عام 1929 عن تربة (ابن المقدم).

في عام 1936عمل خالد معاذ في مصلحة تنظيم المدن، إلا أنه ترك الوظيفة بعد ذلك نتيجة خلافه مع ميشيل إيكوشار حول تخطيط مدينة دمشق. فافتتح مشغلاً لصناعة الأثاث من تصميمه وبزخارف عربية تحت اسم الفن الإسلامي عام 1938، وذلك لتقديم تطبيقات عملية بنماذج جديدة على الزخارف الإسلامية. وتكشف التصاميم التي أعدها عن رغبته باستمرار حضور الروح المحلية في صناعة الأثاث بما يتوافق مع مستجدات الحياة.

عمل كمرمم في المتحف الوطني بدمشق، وشارك بتركيب واجهة قصر الحير الغربي على الجدار الشمالي الخارجي للجناح الخاص بالقصر بعد نقلها من البادية. وقد أصبحت فيما بعد المدخل الجديد (الحالي) للمتحف. عام 1944 عين خبيراً في مديرية الآثار، ثم أصبح مفتشاً عاماً للآثار عام 1950 وفي العام نفسه نشر مع الدكتور سليم عادل عبد الحق كتاباً تحت عنوان (مشاهد دمشق الأثرية). ويلفت الانتباه إلى أن ذلك الكتاب الذي ضم مخططاً منفصلاً لمدينة دمشق كان دون مقدمة، غير أنه ضم عنواناً فرعياً على غلافه جاء فيه (صور من الوطن الخالد تقدمها مديرية الآثار العامة إلى عرب ما وراء البحار) ويبدأ الكتاب بفصل صغير خط عنوانه خطاط بلاد الشام بدوي الديراني، الذي كتب بخطه الرائع عناوين كامل الكتاب، وفي هذا الفصل التمهيدي (دمشق قبل الفتح العربي) سرد علمي دقيق ومكثف لتاريخ المدينة، يليه نصوص عن المشاهد الأثرية فيها بدءاً من المنحوتة الجدارية الآرامية التي اكتشفت في أساسات معبد حدد (الجامع الأموي) وصولاً لخان أسعد باشا. وأرفق كل نص بصور فوتوغرافية متقنة لم يُذكر اسم ملتقطها. وأرجح أنه خالد معاذ بالقياس إلى عمله الواسع في مجال التوثيق الفوتوغرافي.

التراث والخط

ألف خالد معاذ العديد من المصنفات الفنية في تاريخ الفن الأموي والعباسي والفنون الحرفية وفهارس بأسماء الملابس والخط والخطاطين. اهتم بدراسة الخط العربي في المساجد وشواهد المدافن، ونشر كتاباً مع سولانج أوري عن الكتابات العربية على شواهد القبور في مقبرة الباب الصغير عام 1977. وأتم الخريطة الأثرية والتاريخية لمدينة دمشق التي تعتبر الأولى من نوعها. وقد اختير عضوا في الهيئة الدولية لحماية الآثار في مدينة دمشق القديمة.

التأسيس النقابي للفنون

في جانب نشاطه التشكيلي شارك خالد معاذ في تأسيس الجمعية السورية للفنون الجميلة عام 1950، وكانت الدعوة الأولى لها من منزله. وأقام فيها معرضه الفردي الأول في العام ذاته. بعد معرضه الأول في قصر العظم بدمشق مع عبد الوهاب أبو السعود، ومعرضه في بيروت عام 1924 مع ميشيل كرشه. وأقام بعدهم خمسة معارض فردية (أحدها عن الأزياء الشعبية عام 1973): في منزله بشارع 29 أيار عام 1961. وفي المركز الثقافي العربي بدمشق عام 1970. وفي المركز الثقافي الألماني الديمقراطي عام 1973. والأخير في صالة إيبلا عام 1983. كما شارك في العديد من المعارض الفنية، ومنها معرض رواد الفن التشكيلي في صالة أوغاريت عام 1983. ومعرض الرواد عام 1985 في صالة إيبلا. عمل مدرساً للفنون في دار المعلمين. شارك في تأسيس كلية الفنون الجميلة ودرّس فيها تاريخ الفن الإسلامي.

التوثيق والواقعية

أرخت طبيعة عمله البحثية التوثيقة ظلالها على أسلوبه الفني فكان واقعياً توثيقياً إلى حد بعيد، مع بعض الميل للانطباعية في حالات قليلة، والاعتناء بالضوء في اللوحة، وربما ساهم في ذلك خبرته الثرية في مجال التصوير الفوتوغرافي بالأبيض والأسود. وقد استخدم معظم تقنيات التصوير (الزيتي والمائي والأقلام والأحبار) وإحدى أشهر لوحاته (شعبياً) هي لوحة (العربة السوداء) وتصور عربة خيل تمر أمام التكية السليمانية (جامع السلطان سليم) بدمشق بعد يوم ماطر. ففي عام 1969 أصدرت الكاتبة سهام ترجمان كتاباً بعنوان (يا مال الشام) لقي انتشاراً واسعاً، وتمت طباعته مرات كثيرة. كان الكتاب يعرض للحياة الاجتماعية في مدينة دمشق في النصف الأول من القرن العشرين، والتقاليد الشعبية المتوارثة فيها. ولم يكن هناك ما هو أنسب لغلافه من لوحة (العربة السوداء)، فقد كانت تعبق بروح دمشق في ذلك الزمان، كجزء من مظاهر الحياة الاجتماعية من المواضيع التي أولاها خالد معاذ اهتمامه وتناولها في لوحاته التي وازت بين القيمة التوثيقية، والقيمة الجمالية.

وسام الاستحقاق والتكريم

في عام 1983 منحه الرئيس حافظ الأسد وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى تقديراً لعمله الاستثنائي، وقامت الدكتورة نجاح العطار بتقليده إياه في حفل خاص أقيم بالقاعة الدمشقية في المتحف الوطني بدمشق، حيث ألقى الفنان المعلم فاتح المدرس، بصفته نقيب الفنون الجميلة، كلمة عن الدور الكبير الذي قام به خالد معاذ في الحياة الثقافية السورية. وجاء في الكلمة:

«عندما يفقد الوطن مفكراً، والفن جانب صعب من الفكر إذا جاء حاجة قومية أو إنسانية، أول من يشعر بالخسارة هم الذين يرصدون القيم وأهمية هذا العطاء.. لقد تحدث الراصدون لسيرة هؤلاء العمال الصامتين كثيراً عن أهمية الأستاذ خالد معاذ الذي كان مُعلماً حذراً ودقيقاً في توثيق معالم العمارة الشامية وهو ابن هذه المدينة، فشعر بروعة الجمال في الأثر الحي.. وإن الشام في دمشقها سر جمال لا يقدّره إلا من عايش روعة الأشكال.. وإذا أحصينا عدد الذين اهتموا ببلدهم منذ بداية هذا القرن وكشفوا عن الجمال الشرقي لكانوا قلّة تلفت النظر».

ودع خالد معاذ دنيانا عام 1989 بعد أن أودعها أرشيفاً ثرياً من أهم ما سجل عن دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن