اقتصاد

بنج ذاتي

| فراس القاضي

ابتكر السوريون خلال هذه السنوات المُرّة هرم احتياجاتهم الخاص، وما عاد يعنيهم هرم «ماسلو» ولا «ماسلو» كله، (إلا إن كان لديه جرة غاز حر للبيع)، فرفعوا طبقات، وأنزلوا أخرى، وفصّلوه على هواهم ورغباتهم، واعتمدوه في حياتهم التي – أساساً – صار يكفي تفاصيلها طبقة واحدة، لكن مع الاحتفاظ ببقية الطبقات ولو كانت فارغة، لا لاستخدامها مستقبلاً، بل لأن العقل السوري الاقتصادي بالفطرة، تطور لدرجة أنه من الممكن أن يفكر بتأجير بقية الطبقات لشعوب أخرى مثلاً.

ومن الطبيعي عند من أدمن الأمان لسنوات طويلة، ثم افتقده بالمطلق، أن يجعله البند الأول في طبقة هرمه اليتيمة، وهنا تحديداً، كان الابتكار الأهم الذي لا يقل عن اكتشاف النار: إبر البنج الذاتية.

مستوى الخوف الذي وصل إليه المواطن، أجبره على ابتكارها، مع التشديد على ضرورة الاحتفاظ بها كسرّ، ليس خجلاً، وإنما خوفاً من ذياع صيتها، الأمر الذي قد يدفع إحدى الجهات الحكومية إلى فرض ضريبة رفاهية عليها.

بالأمس تماماً، قال سائق التكسي الذي كنت أحد ركابه، إن ست ناقلات نفط وصلت إلى ميناء بانياس، وإن حمولة كل منها مليون برميل، وما هي إلا أيام وستعود مدة رسائل البنزين إلى ما كانت عليه وربما أفضل، لأن كل مليون برميل ينتج عشرات ملايين الليترات من مادة البنزين، ولم يكتف بإلقاء المعلومة، بل ودعّم كلامه بما يفوت الكثير من الصحفيين أحياناً، ألا وهو المصدر، وقال إنه قرأ هذا الكلام على لسان رئيس الحكومة في إحدى الصحف المحلية.

بعد كلامه، وبدلاً من الاعتراض على هذا الكذب البواح، دار نقاش فوري حول كمية النفط! فصحح الأول قائلاً: بل أربع ناقلات وليس ست، والثاني حاول تقليل كمية البنزين المنتج من مليون برميل، لأنه وجد الرقم كبيراً وغير منطقي، وسرى نوع من الارتياح في التكسي، وضبطتُ نفسي مبتسماً، ولولا الحياء الذي تفرضه علي معرفتي بأن كل هذا الكلام غير صحيح أبداً، لشاركتُ في الحديث، واعترضت على فكرة وصول الناقلات الست سوية، وخفّـضت الرقم إلى ثلاث، وبعدها ثلاث مثلاً.

السائق يخدع نفسه، ويعلم أنه يخدع نفسه، بل ويعلم أننا نعلم أنه يخدع نفسه، والركاب شاركوا فيما يعلمون أنه كذبة، لكن خجلهم من فجاجتها، جعلهم يحاولون تشذيبها قليلاً فقط، حتى يصدقهم من سيروونها له مساء أو في صباح اليوم التالي.

إبر بنج ذاتية، نحقن أنفسنا بها، ونتشارك بها يومياً مع الناس، ومع أولادنا، وزوجاتنا، وجيراننا، ومن يسألوننا لثقتهم بمعلوماتنا، وكل من سبق ذكرهم، يعلمون أننا نكذب، وأنهم بدورهم يكذبون أيضاً، لكننا جميعاً مضطرون، فقد وصلنا إلى مرحلة ما كنا نتخيل أننا سنصل إليها: ما عادوا حتى يكذبون علينا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن