كان واضحاً وجلياً وعلى الرغم من مرور أكثر من عقد من الزمن على سيرورة الحرب على سورية، وتعقد طبيعة الصراع وزيادة القوى الدولية والإقليمية والفواعل الداخلية المتصارعة داخل إطارها الجغرافي، أن الأزمات تتصاعد على مستوى ما يسمى المعارضة السورية الخارجية، يوماً تلو الآخر، كان آخرها التجاذبات التي شهدها ما يسمى «الائتلاف الوطني»، والتي بدأت بتبادل الاتهامات في الخيانة والفساد بين رموز هذا الائتلاف بما ساهم في انشطار هذا الهيكل إلى فريقين متخاصمين، وصولاً لتصدعه وانهياره.
ويعود هذا التصدع بتموضع المعارضة السورية وحدية أزماتها لمروحة من العوامل الذاتية والموضوعية، تأتي في قمتها المحاصصة العرقية والإيديولوجية، ما جعل هياكلها السياسية عاجزة عن إيجاد حلول لمشاكلها الداخلية بشكل رئيسي، إضافة إلى الاصطفافات الإقليمية التي تتمسك بها معظم أطراف المعارضة، لتتمثل بذلك كمرجعية لوجودها ومنحها الغطاء السياسي، والالتزام بتوصياتها وتمثيل نفوذها وإرادتها، وغياب واضح لبرامج عملها، باستثناء إجماعها على إسقاط النظام فقط، وافتقارها للديناميكية التي تعتبر وفق المنظور النظري لمبادئ علم السياسة «أساسيات العمل السياسي» لأي معارضة في أي نظام سياسي داخل النظام الدولي والذي يعتبر وجودها حالة صحية وضرورية لدفع السلطة لتقديم أفضل أداء لها في كل المجالات.
حتى أن الأمر وصل بمعظم أطياف المعارضة الخارجية للاختلاف على كل شيء، بما في ذلك المسارات الداعية للحل السياسي، مثل مساري أستانا وسوتشي، وهما مساران برز من خلالهما تأثير الدول المعنية والقوى الفاعلة بالملف السوري في انتقاء قوائم وأسماء الشخصيات المفضلة والأكثر ولاء لها، وهو ما ظهر في انتقاء وفد المعارضة، والصعوبة والتعقيد الذي اعترى تشكيل وفد المجتمع المدني في لجنة مناقشة الدستور.
غير أن الخلافات الموضوعية المتجذرة تعود في جذورها البنيوية لقبول المعارضات الخارجية أو جزء كبير منها، لأن تكون رهينة تمثيل نفوذ الدول التي منحتها غطاء سياسياً وتعترف بشرعيتها، وهو ما يفسر الاتساع الكمي لعدد الهيئات والمكونات التي شكلت منذ بداية الحرب على سورية، ويفسر بصورة جلية لا لبس فيها سبب تصدع هذه المكونات وانقسامها على خلفيات إيديولوجية ومصالحية وتمثيلية للمرجعيات الراعية لها.
مؤخراً شكل ما عرف بمؤتمر الدوحة للمعارضة السورية أكثر الصور التعبيرية في المزاوجة بين الصراعات المتجذرة والتوافقات الهشة والقدرة الكبيرة على استغلال الملف السوري وجزئياته المتعددة من قبل الدول الإقليمية لتكون حصان طروادة، تدفعها للتدخل في الأزمة السورية بمفردات متعددة بما فيها المعارضة الخارجية، وبغض النظر عن مشروعية هذه المعارضات ونياتها فإن المتتبع لما جرى في المرحلة السابقة والحالية يدرك الحقائق التالية:
– معظم المعارضات الخارجية لا تمتلك استقلالية في عملها وتوجهاتها وتفتقر لمرونة تقبل الآخر، وهي تستند في قوة وجودها إلى عواصم الدول التي تتيح لها حرية التواجد والاجتماعات المضبوطة.
– تتنافس هذه المعارضات فيما بينها لاحتكار القرار السياسي، ولا تتقبل التشاركية مع غيرها من الهياكل المعارضة، وخير دليل على ذلك يتمثل في اتهام الائتلاف وغيره من مكونات المعارضة المدعو رياض الحجاب وغيره بأن هدفهم من عقد الورشات مؤخراً، الترويج مجددا لأنفسهم وتقديم بعض الشخصيات على أنهم الأقدر على جمع شتات المعارضة.
– التسارع الإقليمي لتوظيف ملف المعارضة للحفاظ على تأثيرها ودورها داخل الملف السوري؛ فعلى الرغم من وجود مسار توافقي تركي قطري على المستويات الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية، إلا أنه في الآونة الأخيرة ونتيجة تحولات اضطرارية شهدتها السياسة الخارجية التركية بالانفتاح على السعودية والإمارات ومصر، دفع قطر لإعادة استقطاب المعارضة لصفها مستفيدة من غزل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لها واعتبار قطر حليفاً استراتيجياً من خارج الناتو.
حيث تسعى واشنطن في الوقت الذي فشلت فيه بتوحيد القوى الكردية رغم المؤتمرات والاجتماعات المكوكية التي رعتها بمبادرة منفردة أو بشراكة مع إقليم كرستان العراقي والدور الفرنسي، للتوجه نحو الخطة «ب» المتمثلة في إيجاد آلية تعاون اقتصادي بين ميليشيات «قسد» والفصائل المسلحة في الشمال الغربي، لتكون بادرة لتوسيع التعاون الاقتصادي نحو المجالات الأخرى وبخاصة في النواحي العسكرية والسياسية والأمنية، لاسيما مع توافر أرضية مشتركة لهذا التعاون تتمثل في معاداة الدولة السورية والخشية من حصول تبدلات ميدانية عسكرية لمصلحة دمشق واستغلال الانشغال الروسي في أوكرانيا.
غير أن إمكانية تنفيذ هذا المشروع وترجمته للواقع العملي تصطدم مع عدة تحديات متراكمة، حيث يتمثل التحدي الأول في تنوع المرجعيات الداعمة للأجنحة السياسية والعسكرية للقوى الكردية والفصائل المسلحة، وهذه المرجعيات من الدول الإقليمية لديها «فيتو» على مشاركة البعض في هذا التحالف، مثل موقف النظام التركي من «قسد» وجناحها السياسي «مسد»، كما إن الفصائل المسلحة في إدلب تحتوي على فصائل وعناصر راديكالية مصنفة دولياً على سلم الإرهاب مثل «جبهة تحرير الشام» ، وهو ما قد يضع شركاءها المحتملين في موقف محرج، فضلاً عن وجود حالة من الاضطراب والتناحر والرغبة في الانتقام والتنافس الذي قد تشهده الأجنحة السياسية والعسكرية على تولي القيادة واتخاذ القرارات، وهو ما سيجعل أي مكون جديد خاضعاً أكثر للمواقف الإقليمية المتخاصمة وللعوامل الداخلية الملغمة بحقل من الألغام.
صيغة التخوين ولصق الاتهامات والفساد وغيرها من الاتهامات، بغض النظر عن مصداقيتها وصحتها أم لا، باتت وسيلة أطياف المعارضة للتناحر فيما بينها، غير أنها تعبير حقيقي عن الصراع الأكبر الذي يدور على مستوى الدول التي ارتضت الارتهان لها ولقراراتها، فمجرد الإعلان عن انقسام الائتلاف يشير لحالة من اثنتين إما محاولة لخلط الأوراق لإيجاد صيغة ائتلافية جديدة والترويج لها دولياً، أو حالة من الانقسام الإقليمي المتمثل في إعادة تصفير المشاكل لأهداف داخلية انتخابية وخارجية جيواستراتيجية.