ثقافة وفن

المتاهة

| إسماعيل مروة

لا ريب في أن الأدمغة المتميز هي التي تقوم على التصميم للنماذج ا لتي تطرح في الأسواق، ابتداء من تصميم أهم المركبات، ووصولاً إلى الألعاب البسيطة، إذ يتفرغ أناس لتخيل ورسم وتنفيذ هذه المشروعات، ومن ثم القيام بوضعها موضع التنفيذ، ومن ثم تجني هذه التصميمات الملايين التي تصب في مصلحة الشركات المنتجة التي استفادت من المصممين..!

والمتاهة هي تلك اللعبة البسيطة التي يدخلها الواحد منا ومن مداخل متعددة ليجد نفسه أمام طريق مسدود، فيعود من جديد ليبدأ رحلة أخرى، وربما يجرب واحدنا في هذه المتاهة كل الطرقات ليكتشف في النهاية مدخلاً لا ينتبه إليه هو الذي

يفضي به إلى الخروج من المتاهة ا لتي صنعها عقل مبدع جعل الممكن أبعد ما يكون عن مستوى النظر والفكر، وما إن يدخل الواحد من هذه المتاهة في المدخل الصحيح حتى يجد الأمر بمنتهى البساطة، فيضحك من نفسه ومن الوقت الذي أمعناه للوصول إلى الطريق!

وهذه المتاهة هي لوحة ثابتة لا تتغير ولا تتحرك وتعطيك الفرصة للتجريب حتى تصل إلى الحل، وبعد أن تنتهي من اللعبة والوصول ربما تلقي هذه الورقة جانباً، وربما تجعلها في سلة المهملات، متناسياً أو ناسياً أنها أخذت من وقتك وتفكيرك ساعات حتى وصلت إلى نتيجة، وربما سعيت واشتريت ورقة أخرى، ولوحة أو لوحات تمثل المتاهة والمتاهات لتعاود محاولات حلها.. تفعل فيها ما تفعل في الكلمات المتقاطعة والألغاز، وهكذا تمضي الأيام وأنت تبحث عن كلمة ضائعة، أو طريق في متاهة، أو لغز عليك حلّه وفكّ رموزه!

هذا على ورق ملون أو أبيض، بينما يتجاهل الواحد منا المتاهة الكبرى التي يقع تحتها، والتي تحتاج منا إلى حلول كبرى، فلا يكترث لأمر، ولا يتنبه لمتاهة يجد نفسه وليس قلمه أول الطريق، وهو يرى الطريق ونهايتها، ويعرف الحلّ والحلول، لكنه يأبى إلا أن يقوم بتجريب كل طريق في المتاهة، قد يكون المرور فيها محفوفاً بالمخاطر، قد ينفجر لغم، قد تنتهي حياة، قد يسلب منه رزقه، قد وقد وقد.. ومع ذلك يأبى واحدنا أن يستجيب لسلامة الحسّ الإنساني فيه، ويرفض العقلانية، ويدخل في متاهة، وربما في متاهات متعددة في الوقت نفسه دون أن يكترث لما سيكون، وكل ما يملكه هو التأفف والتبرم، وإلقاء اللوم على الآخرين والقدر، وكأنه ليس من اختار المتاهة بإرادته، يبحث واحدنا عن وجيه في أي ميدان ليتبعه، فهذا يأتمر ويركض وراء رجل روحاني ديني، ليدخل الدنيا ويخرج منها وقد اكتسب البراءة لنفسه من المجتمع، ومن الضعف، ليخرج طاهراً، بعد أن حشر نفسه في طريق مسدودة لا خروج منها..!

وهذا اختار منهجاً سياسياً محدداً علمانياً أو دينيا، يمينياً أو يسارياً، فما حاد عنه قيد أنملة، ولا يقبل فيه نقاشاً، ربما لفوائد جاءته وتأتيه، وربما لفوائد مرتقبة، وربما لوجاهة تحققت له، أو يأمل أن تتحقق!

يكتشف متأخراً أنه ضاع في دروب متاهة، وتتحول حياته إلى كلمة ضائعة في صناديق متجاورة تفصل بينها فواصل، وفي أحسن الأحوال تتحول إلى لغز من نوع رديء عصيّ على الحل، وإن رأى أمامه الحل يرفض أن يقتنع به، لأنه يرغب في أن يبقى في إطار من المجهول!

كيف يمكن لواحدنا أن يضع حياته في بداية متاهة وهو يرى الطريق المسدودة؟

وبعد أن يمضي رحلته، يجلس ناقماً أو راضياً، يقصد رموزاً، ويظهر قناعات جديدة، وهو الذي أمضى عمره يدخل متاهات، ويرسم متاهات، ويسدّ الطرقات على الآخرين للاحتفاظ بورقة المتاهة أكبر وقت ممكن!

يصبح صالحاً تقياً نقياً ورعاً، والمجتمع الذي تعود ثقافة المتاهة يغفر ويتعاطف، ويقدم له ما يشاء، ويضعه في مكانة لائقة، وفي الوقت نفسه يكون أحدهم مستغلاً لانشغالهم ويعدّ متاهات جديدة تصل مدى أبعد من التعقيد!

في معارك الكبار يكتشف الإنسان أنه أمضى عمره في متاهة على الورق، وأن الكبار أخذوا التصاميم وصنعوا منها خوارق لا تجارى.. وبدل أن يجلس ليرقب وينتفض، يجلس ليرسم متاهة جديدة يحاول من خلالها تخيل ما ستؤول إليه معارك الكبار، وربما وصل متاهته إلى تخيل أنه قادر على المعرفة..!

يفرد اللعبة الجديدة ويحاول الدخول من كل طريق، يعود للتجريب، يجرب كل طرقاته الممكنة، والتصميم الأصل للعبة، صار في فضاء آخر!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن