معنى الوطن؟
حسن م. يوسف :
قال لي بائع الخضر بلهفة: « في بداية الأحداث سمعت لك مقالاً في إذاعة شام إف إم عنوانه: «الوطن ما هو كلمة»، ومن وقتها وأنا أتمنى أن أراك كي أسألك عن «معنى الوطن؟»
أعترف لكم أن السؤال قد فاجأني وذكرني بموال عتابا للحكيمة صباح، التي كانت طويلة العمر حقاً، إليكم ترجمته إلى الفصحى: «لا تلق حجراً في عين الماء بعد أن تــشرب منها/ ولا تمنع من يطلب المعروف منك، بل أعِنه / ولا تستصغر أحدا من الناس بعينك/ فالغابة الكبيرة يشعلها عود ثقاب».
ابتسم الرجل عندما طال صمتي، قلت له: الوطن مثل الحب، لم يستطع أحد حتى الآن أن يجد تعريفاً قاطعاً ونهائياً لأي منهما. فمعنى الوطن كمعنى الحب، يتكامل مع جوهر الفرد ويختلف باختلاف شخصيته وتربيته ومعتقده. وأنا أرى أن الإنسان من دون وطن لا يساوي شيئاً، كما أن الوطن من دون إنسان هو مجرد جغرافيا لا روح لها.
قال لي: « كنت في مقالاتك الصحفية تنتقد البلد دائماً، فلم توقفت فجأة؟»
أجبته: كنت أنتقد أداء الحكومة وأخطاء المسؤولين، أما سورية فلم أنتقدها يوماً وكان ولائي لها مطلقاً لا تشوبه شائبة!
حدَّق في عيني كما لو أنه يريد أن يقرأ سريرتي ثم قال: «ما معنى الوطن بالنسبة لك شخصياً؟» ابتسمت له قائلاً: الوطن بالنسبة لي هو كل شيء بالمعنى الدقيق للكلمة فكل مكوناتي مستمدة من كيانه بدءاً من لحمي ودمي مروراً بثقافتي وانتهاء بأفكاري وأحلامي، وفضله عليَّ كفضل الأب والأم لا يمكن ردّه ولا سدّه. فإذا كان والداك هما اللذان أنجباك، فالوطن هو الذي أنجبنا جميعاً».
ارتسمت ابتسامة مرة على وجه بائع الخضر قال: «وماذا عمَّن يبيعون الوطن في السوق لمن يدفع أكثر؟» قلت: العقوق لم يبدأ البارحة ولن ينتهي غداً.
في تلك اللحظة أنقذني الشرطي الذي كان يحدق في لوحة سيارتي كاشفاً نيته بتنظيم مخالفة بحقي! فحاسبت البائع وانطلقت. غير أن الحوار بيني وبينه لم ينقطع طوال الطريق، وعندما وصلت إلى البيت، تذكرت كلاماً كنت قد قرأته لفايز الخوري شقيق الزعيم السياسي الكبير والعلامة الشهير فارس الخوري جد أديبتنا المتألقة كوليت خوري، فقد عبَّر في تقديمه لكتاب «فاجعة ميسلون» للدكتور محي الدين السفرجلاني عن استنكاره للخيانات التي سرعت في انهيار جبهة ميسلون بقيادة الشهيد وزير الحربية يوسف العظمة ما جعله يرى أن «ما بنا من مصيبة فمن أنفسنا أولاً، ومن الأجنبي ثانياً…» وبعدها يتوصل للاستنتاج المهم التالي: «المجرم السياسي جدير بالإعجاب إذا رأى أن نظام دولته الداخلي لا يتفق مع رأيه واجتهاده، فسعى لتبديله وتغييره، ولكن الذي يتآمر مع الأجنبي لتهديم كيان دولته الخارجي، وتقويض استقلال وطنه ليس مجرماً سياسياً، هو أكثر من هذا، هو (خائن) وليس بعد الكفر ذنب. اعتبروا أيها السوريون، وانتبهوا أيها العرب، فإن لوطننا من أنفسنا أعداء هم أشد عليه من الأجنبي، واعلموا أن واحداً من العرب يكون عدواً للعرب هو أعظم خطراً على العرب من مئات الملايين من غير العرب».
رحم اللـه فايز الخوري فعلى لسانه وعلى ألسنة أمثاله قال مصطفى صادق الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي/ يمجدها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خير فيمن لا يحب بلاده / ولا في حليف الحب إن لم يتيّم