ثقافة وفن

الثقافة منفعل سلبي!!

إسماعيل مروة :

أقف عند الثقافة سبباً من أسباب تردي الأمم، وسبباً من أسباب ما يجري في العالم والوطن العربي وسورية تحديداً، فكل ما يجري سببه الثقافة، وهنا لا أريد الوقوف عند الأشخاص، ولا يعنيني الأشخاص، ولا أتوجه بالنقد إلى شريحة من الذين تولوا أو يتولون الأمر الثقافي، ولكنني أقف عند آلية التفكير، والمنظومة الفكرية التي عملت على تهميش الثقافة، وتحويلها من فاعل إلى منفعل، ومن مؤثر إلى متأثر، هذه الآلية التي جعلت الثقافة والفعل الثقافي في الدرك الأسفل من اهتماماتنا، بل من عنايتنا، والتي لا تبدأ من الجهلة والمعقدين الذين يتندرون في بلدنا على المثقفين، ويقولون: مثقفو المقاهي والحانات وما شابه من نعوت سلبية تجعل المثقف في مواجهة المجتمع! ولا تتوقف عند التندر على المثقف وشعره وصلعته وهيئته وبوهيميته ما يجعل المثقف في المجتمع منبوذاً ومرفوضاً! ولا تكون عند إلصاق الصفات الأيديولوجية السلبية بالمثقف من تحلل وإباحية وما شابه بحيث يتحول المثقف إلى شيطان رجيم في نظر الأغلبية من أبناء المجتمع الذين يهدف المثقف والفعل الثقافي إلى تنويرهم، فيتحول المثقف من تنويري تثويري إلى لوحة من التهكم! وهذه الحالات وسواها مما لم أذكره ليس إلا من فعل السلطات العربية التي أصرت وبفعل ممنهج على إبعاد المثقف الحقيقي عن المعادلة، وسعت إلى تكريس التصنيف، فهذا إما مثقف سلطة أو مثقف معارض، والطريف أن المثقف قد يدري وقد لا يدري أن السلطة تقوم بنفسها بتعرية مثقفها الذي تحول إلى بوق، تعريه لتصنع مثالاً سلبياً عن المثقفين والثقافة، حتى لا يصبح المثقفون رواداً! والسلطات هي التي صنفت المثقفين كما سبق، فهي التي عندما لا يعجبها رأي تروج إلى أنهم مثقفو مقاه للتندر عليهم وإبعادهم عن الفاعل المؤثر! وفي هذا الإطار تحولت العملية الثقافية في مجتمعاتنا العربية من عملية إحيائية تنويرية تثقيفية إلى عملية تكميلية لا تؤثر إن غابت وإن حضرت!
فوزارات الثقافة العربية وفي عقود متتالية ليست أكثر من مرتع وظيفي يحوي بطالات مقنعة هنا وهناك، ولا يهم من يتولى أمر الثقافة، إن كان مثقفاً أم لم يكن! إن كان مقنعاً أم لم يكن! إن كان مهماً يمكن تفريغه وتصنيفه مثقف سلطة، وإن لم يكن مهماً فهو مجرد إداري يمكن أن يتعلم، وإن لم يتعلم فهي ثقافة، والثقافة لا تعني شيئاً في نظر السلطات العربية!
بل إن الأمر تجاوز ذلك، فصارت الثقافة بموقعها الوزاري، ومواقعها الإدارية مجال إرضاء للأحزاب والجماعات والأشخاص، هل نستعرض الأسماء على المستوى العربي والمحلي؟! لا داعي لذلك، شأنها شأن الشؤون الاجتماعية في مراحل كثيرة عندما كانت في سورية مخصوصة بأحزاب الجبهة غير البعثية، لمجرد الإرضاء والحصة من المواقع الوزارية، فلا الأحزاب كانت فاعلة، ولا الوزارة قدمت ما عليها، والمتولي لها لا يعطيها أي اهتمام، فهي إرضاء ومرحلة، لذلك لا بأس من تهميشها وحلبها حتى آخر لحظة، وكثير في سورية من الذين تباهوا بأنهم غير بعثيين وتولوا الثقافة، وأنا لست مع خصّ البعثيين بالمواقع، فالكل مواطن ومن حقه، لكنني أذكر ذلك لما له من أثر وتأثير على الموقع، وليس على الشخص!
فهذا سرق ميزانية الثقافة ومشى ولا أحد يعرف طريقه أو مصيره! وذاك صار كاتباً مهما إن عطس طبع كتاب في الوزارة ومشى، وثالث خصص الميزانية لإعادة كتبه ورحل! ورابع طبع لأصدقائه وحقق علاقات طيبة على حساب الوزارة، وما من صديق من أصدقائه إلا زيّن الكتاب بتوقيعه الأخضر لطبعه بغض النظر عن القيمة الفكرية والفنية وأصالتها!
لم ينظر أحدهم- ودون استثناء- إلى الفعل الثقافي، فوزير يحب الفن التشكيلي في إحدى الدول العربية لم يعد الاهتمام منصباً إلا على الفن والفنانين، وآخر يعنيه كذا، وآخر، وهكذا تطول سلسلة من غابت عن أعينهم إستراتيجية الفعل الثقافي، وقدرته على التغيير..!
عندما كان الاتحاد السوفياتي على قيد الحياة، كانت دار التقدم بموسكو تقدم أهم الأعمال الإبداعية والأدبية والدراسات مترجمة للمترجمين الكبار من أمثال سامي الدروبي وأبو بكر يوسف وغيرهما، وتباع للقارئ العربي بقروش، وحين انتهى هذا الاتحاد لم يفكر أحد في الثقافة العربية بتبني هذه الدار ومنشوراتها، ولم يفكر أحدهم بشراء الحقوق، ولم يفكر أحدهم بعقد شراكة، فتوقف شلال من المعرفة والإبداع ونحن نتفرج ونبني مسجداً وكنيسة، والقادر على الفعل الثقافي يغيب في عالم آخر!!
وبعد الفورة القومية واليسارية توقفت دوريات مهمة كان القارئ ينتظرها مثل الطليعة والآداب والوحدة العربية وسواها، وما من مسؤول ثقافي فكّر في تبني هذه المشروعات من وزارته أو دولته، أو حتى أن يقنع الهيئات الثقافية العربية بإنقاذها لأنها رافد ثقافي!
صدرت دوريات خاصة ثقافية خالصة، وتحمل أصحابها عبء النشر والتوزيع، وبعد العدد الأول عجزوا عن الإتمام، فلم يسعفهم أحد، وكان جواب متولي الثقافة: الثقافة بضاعة خاسرة، فإما توقف هؤلاء، أو حولوا الدورية الثقافية الرصينة إلى مجلة عامة يغلب عليها الطابع الفني الرائج!
متولو الثقافة يرون بأعينهم دوريات فضائحية تقوم على قصص متخيلة من اعتداء وسرقة واغتصاب تأخذ أعلى المبيعات والأسعار، بينما الثقافة لا قيمة لها في نظرهم، ليس صحيحاً أن الثقافة غير قادرة، فمجلة مهمة مثل (وجهات نظر) ذات تبعية خاصة، تطبع وتباع بسعر عال وينتظرها الناس، ولكن عندما أصدرت وزارة الثقافة السورية (شرفات) كانت مخصصة لمدير تحريرها ولحيته وإبداعه وإقيائه وأصدقائه، وعندما فرغ منها صار معارضة وتوقفت شرفات، لكن وجهات نظر لا تزال موجودة بالدراسات الرصينة من هيكل إلى كوكبة من الدارسين الجادين الذين يقدمون الأرقى والأعمق.
إن بلداننا العربية تخرج من أزماتها عندما تتوقف عن النظر إلى الثقافة على أنها الجحش الواطي الذي يمكن أن يركبه من هبّ ودبّ، وهو رخيص الثمن إن مات فهو لا يعني أحداً! تخرج عندما تدرك أن الفعل الثقافي التنويري الوطني هو الذي يبعدنا عن التطرف سياسياً وأيديولوجياً ودينياً، فالتطرف لبس وجهاً واحداً! عندما لا تجد أن أي حل يكون على حساب الثقافة، فلا أحد ينتظرها!
نعم.. لا أحد ينتظر الثقافة، لكن ما من أحد تولى الأمر الثقافي وسعى أن يذهب بالثقافة إلى الناس بدل أن يأتوا إليه.. يريدون من المثقف والمبدع أن يقصدهم ويتوسل ويتسول بين أيديهم، والأجدى أن يتوسلوا الفعل الثقافي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن