ثقافة وفن

«الماء في ثقافة الشعوب» محاضرة للبانة مشوح في مجمع اللغة العربية … طاليس هو أول فيلسوف عدّ الماء جوهر كل مادة في الكون

عامر فؤاد عامر :

حضر الماء كعنصر أساس في حياة الإنسان، فهو أحد العناصر الأساسية في شكل الحياة وولادتها، ومنه تطور شكل الحياة وانطلق في مكنوناته ليشكل مخلوقات وكائنات كثيرة تشترك في وجودها سلاسل الحياة، نجدها ونلاحظها في حضارات البشر مؤرخةً منذ بداية وجودها في الأرض وإلى اليوم. وانطلاقاً من أهمية هذه الفكرة وجوهرها ألقت الدكتورة «لبانة مشوّح» عضو مجمع اللغة العربيّة محاضرة عنوانها «الماء في ثقافة الشعوب»، باحثة في تفاصيل موثقة في حضارات أهل الأرض كما عملت على استعراضها بصورة لطيفة مع سلايدات ترافق كلّ شاهد اختارته.

لدى كنعان
ومن مقدمة المحاضرة هذه اقتطفنا: «…وجدنا لزاماً علينا في هذا السياق العودة بعيداً في تاريخ الفكر الإنساني حيث الماء عنصر أساس في الثقافات القديمة، يشكّل إحدى ركائزها الغارقة في الرمزية فيما يعرف في علم تصنيف الأساطير بـ«الأسطورة العليا»، كأسطورة الخلق الأول وأسطورة الطوفان. فهو فيها العنصرُ الذي يُبدأ به الخلق، ويصل الأرض بالسماء والإنسان بخالقه. في الأساطير الكنعانية (صورة كرايسيك ص185) توحّدت الأرض بالمطر في إله واحد هو الإله «بعل» (أي السيّد)، فكان بعلُ في آن معاً إلهَ المطر وسيدَ الحياة، لأن في الماء حياةَ الأرض وما عليها».

في اليونان ولدى الفرس وبابل
عرّجت الدكتورة «لبانة» على ما ذكرته كتب الفلسفة والتاريخ القديمة حول أهمية وقداسة الماء لدى شعوب اليونان والفرس وبابل، فذكرت في مقطعٍ من المحاضرة: «… تُنبِئنا كتب تاريخ الفكر بأن الفيلسوف اليوناني طالس (القرن السادس ق.م) هو أول فيلسوف في التاريخ عدّ الماء جوهر كلّ مادّة في الكون وأساسَها الأوّل، ليضيف إليه أقرانُه من بعده النار والتراب والهواء. لكن الحقيقة أن الفارسي زرادشت، الذي ترجِّح آخر الدراسات أنه عاش بين القرنين الخامس عشر والحادي عشر ق.م، أي قبل خمسة قرون على الأقل من طالس، قد سبقَ هذا الأخير إلى ذلك، كما سبقت شعوب الهند وفارس والإغريقَ إلى تقديس الماء. فالفرس قدّسوا الماء والنار والتراب والهواء، وهو ما أخذه عنهم لاحقاً علماء الطبيعة الإغريق. واعتقد الفرس أن اللـه بدأ الخليقة بالماء، ثم أتبعها بالنار والنبات والسماء والأرض، ثم خلق الإنسان في اليوم الأخير. وقد بلغ حدّ تقديسهم للماء أن بنوا له المعابد، وقدّموا القرابين للينابيع. لكنّ البابليين كانوا الأسبق إلى التمعّن في أصل الوجود وربطه بالماء. فبدايةُ الكون في معتقدهم كانت بحراً حلواً، ثم ما لبثت الآلهة أن مزجت الماء الحلو بالماء المرّ فخلقت منه «إنشار» سيدَ العالم العلوي، و«كِنشار» سيد العالم السفلي (أنظر كرايسيك 1983). ومن لقاء إنشار وكنشار ولِد «إيا» القوي المسلّح بكلّ المعارف».

قداسة الماء
من باب تقديس الإنسان في الحضارات القديمة عمد إلى ربط الماء بالقدرات الخارقة والظواهر الكونيّة الكبيرة التي لم يستطع تفسيرها بصورة علميّة، فربط عنصر الماء بعدد كبير من الآلهة، وفي ذلك تقول الدكتورة «مشوّح»: «والأرجح أن «بعل» هو أقدم آلهة المطر في الحضارات السامية القديمة، وأهمها بالمطلق (صورتا بعل)، وهو الإله المحارب عند الكنعانيين. لُقِّبَ بـ«راكب الغيوم وسائقِها»، إذا غضب أطلق عواصفه وصواعقه فدمّر وأحرق، وإذا رضي أرسل غيثاً رخيّاً يَسقي فيحيي ويغلُّ الغِلال… وفي رواية أخرى، أن الإله «موت» انتصر على الإله بعل، فنزل بعل إلى عالم الأموات، وأخذ معه غيومه ورياحه الحاملةَ للغيث؛ فحلّ القحل والمحل، وشحُب وجهُ الأرض، وهزُلت الكائنات وباتت عُرضة للمجاعة… إذ تروي الأسطورة الكنعانية أن الإله «أيل» كبير الآلهة بكى «بعل» بكاء مرّاً، بل بالغ في اللطم والنحيب، وأنه، بحسب ما ورد في «مغامرة العقل الأولى»، خرّ واقعاً على الأرض، وأخذ يحثو التراب على رأسه ويمرّغ نفسه في الأديم. ولا عجب في ذلك، فاختفاء بعل يعني اختفاءَ الحياة…».

الماء والمرأة
يقترن عنصر الماء بالخصوبة مباشرةً، ولذلك نجد ربطاً قوياً لدى الشعوب والحضارات بين عنصر الماء والمرأة لكونها ولادة الحياة وحاضنتها، وحول هذه الفكرة أضافت الدكتورة لبانة: «…جعل السومريون للماء ربةً هي «آلهة الينبوع» تبوّأت في حياتهم منزلة مرموقة، وأبدع لها الفنان السومري تمثالاً أكتُشِف في مدينة ماري وحُفِظ تحفة فنية في متاحف سورية الحضارة، أمانة في أعناق السوريين للأجيال القادمة، وللبشرية جمعاء..».
الماء والمصريون
ولدى المصريين القدماء علاقة وطيدة مع الماء على الرغم من علاقتهم المباشرة مع عنصر النار، إلا أن سكناهم إلى جانب نهر النيل دلالة على تقديس واحترام الماء، ومن الملاحظات التي أوردتها الدكتور لبانة في محاضرتها عن ذلك: «…أمّا المصريون القدماء فمجّدوا نهر النيل كواحد من آلهتهم، معتقدين أنه نشأ من فيض دمع إيزيس وأزوريس. أسموه الإله «حابي» وتمثلوه في صورة رجل امتلأت يداه بالخيرات تحف به الأسماك والطيور والحيوانات والنباتات…».

الجذر (قدس)
من المقاطع المميزة التي أوردتها المحاضرة أيضاً الاستعانة والبحث في جذر كلمة القداسة، وفي ذلك استعانت ببحث في كتابه «دمشق الأسطورة والتاريخ» ومنه جاءت: «…في معرض حديثه عن الصلة بين جذر (ق د س) وجذر (ق د ش) في العربية والكنعانية القديمة والوسطى، وفي الآرامية بلهجاتها المختلفة مع تبديل السين شيناً وبالعكس. ففي الكنعانية والآرامية، بحسب الدكتور محفّل، «قدُسَ» معناها «طَهُرَ» و«تبارك»، ومنها القدس والقدّيس والقداسة والقَدوس (على وزن فعول) أو القُدوس (بضم الفاء) أي المبالِغ في الطُهْر…».

مفاهيم الماء المتناقضة
يظهر الماء رمزاً للحياة والطهر والتجدد، يتبدى أحياناً أخرى رمزاً للضياع والفناء، مجّسداً مفهومين متناقضين في آن معاً: الخير، والشر؛ والثواب والعقاب، وفي مقطع من المحاضرة نجد: «..هذا التضاد في الأدوار اختزلته الأسطورة البابلية إذ امتزج الماء الحلو بالماء المر فكان العالم السفلي. وفي الديانات السماوية علاقة التضاد واضحة في مفهوم الماء: فبالطوفان عقاب على الآثام، وبالماء الطاهر المقدّس تطهّر من الدنس. والمزاوجة في الماء بين الخير والشرّ شديدة الوضوح مفهوماً ولغة في حديث الإمام علي رضي اللـه عنه «خيرُ بئر في الأرض زمزم، وشرُّ بئر في الأرض بَرَهوت»، وهنا يرى بعض الباحثين أنه شاع عند العرب اسمان للماء المنزّل من السماء: الأول: الغيث الذي يدلّ على الرحمة والخير، والآخر:المطر الذي يُذكر في العقاب والسوء».

العربيّة والماء
من النقاط التي ذكرتها المحاضرة أيضاً علاقة وطيدة بينتها بين اللغة العربية واستئثارها بأهمية الماء والنصوص التي حفظت ذلك، ومن ذلك اخترنا أيضاً: «…واللغة العربية هي واحدة من أكثر اللغات التي كرّست بفصاحة بالغة ذاك الرابطَ الوثيق بين الماء والحياة. فنجد الماء والخِصب والحياة مختزلة في كلمة واحدة هي «الحيا» (بالألف الممدودة)؛ وفي الحديث الشريف: «جاءكم الحيا» (لسان العرب) ولفظة «الحيا» تشترك في جذرها مع «الحياة»، وهي أيضاً تعني المطر والخِصب في آن معاً. وفي لسان العرب تعني: «ماءَ الغيم» و«العشبَ النامي بعيد هذا الهطل»، أي إن كلمة «الحيا» تجمع سبب الحياة ونتيجتها.

في معاني الماء بالعربيّة
برِع العرب في تمييز المطر، وقد اخترنا من المقاطع التي أوردتها الدكتورة «لبانة» بعضاً منها فجاء: «…فمن أسماء المطر الشديد بأنواعه: الصَّيِّبُ والصَّوْب: والهَكّ والوّدْق والغَف والعُبَابُ والعَدْرُ والدّجْنُ والغـَدقُ والجَوْد أي المطر الغزير الكثير العام في كل زمان وهو فوق مطر الدِّيمة وهو الذي يروي كل شيء. والجِلبَاب: وهو المطر الكثير. والهَفَنُ: الهَفَن هو المطر الشديد. والشقيقة هي المطر الوابِلُ المُتَّسعُ.
أمّا البُعاقُ فهو المطر الكثير الغزير الواسع، وشدّتُه مصحوبة بالصوت. والبَغَرُ هو الدفعة الشديدة من المطر. فإذا دام المطر أياماً كان أثجم، وإذا أقلع كان أنجم، وإذا كان دائماً عظيماً فهو الهَضْبَةُ أو الأُهْضُوبَةُ، وإذا استرسل كان مُرْثَعِنُ، وإذا تكرر ورجِع فهو الرَّجْعُ. وإذا كان عاماً فهو الجَدَا، وإذا أتى بدفعة متكررة كان البَـوْقُاً، وإذا أتى متتابعاً فهو الهَتـْن والهطْل. وإذا كان حثيثاً متدارَكاً فهو السَّبْط والسَّحُّ والحَتْفَل. وإذا كان سريعاً في هطله فهو الهَفْت…».

نهاية
في المحاضرة المزيد من المعاني والأمثلة دلالة على أهمية وتجذر تقديس الناس للماء وعلى النظرة الحقيقيّة في تقديس هذا العنصر الأساس في استمرار الحياة والولادة، والكثير من الإرشادات في المحافظة عليه كعنصر حيوي مهم في حياتنا الحالية والبحوث الكثيرة التي تشير إلى المحافظة على مصادره ومنابعه، وتكثر الحكايات والأمثلة فلا تتسع بمكانها لتكون في محاضرة أو ساعات من الإلقاء، فوجود عنصر الماء وجود ضروري مرتبط مباشرة في مسببات وجودنا، إلا أن المحاضرة ألقت الضوء على تواريخ وأمثلة جديرة بالاهتمام والاحترام فكانت غيضاً من فيض.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن