قضايا وآراء

مرصد «قسد» إذ يخطئ بتحديد اتجاه الرياح

| عبد المنعم علي عيسى

جهدت ميليشيات «قسد»، شأنها في ذلك شأن باقي التيارات والفصائل السورية، في إجراء مقاربة سياسية للتحولات التي فرضتها الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ نحو شهرين، حيث من الممكن للفعل هنا، فيما لو جاء صحيحاً، أن يساعد في انتهاج سياسات لها طبيعة استثمارية قياساً للأهداف والمرامي التي وضعتها تلك التيارات نصب أعينها، وعند «قسد» كانت قد ارتسمت بوضوح منذ العام 2015 عندما قرأت قيادات «جبال قنديل» القرار 2170 الصادر عن مجلس الأمن والقاضي بمحاربة «تنظيم الدولة الإسلامية»، على أنه «هدية من السماء» يجب فتح الأيدي والصدور لتلقيها، كانت القراءة هنا تستشرف بالتأكيد إمكان تكرار تجربة الشمال العراقي وتمددها باتجاه الضفة السورية.

مارست «قسد» على امتداد الشهر الأول من الحرب الأوكرانية صمتاً سياسياً، لكن مع القيام بعملية جس نبض كانت واضحة، وهي تمثلت بإخراج «عقد اجتماعي» سمته دستوراً جديداً، في مناطق سيطرتها، إلى العلن شهر شباط المنصرم، والفعل الذي صاغته أروقة «غرفة قنديل» كان يمثل مجازفة كبرى تحمل معها مخاطر القطيعة مع حكومة دمشق التي تدرك «قسد» أن الوشائج التي تربطها معها لا تزال تشكل الدرع الحامي في مواجهة عمل عسكري تركي يستهدف هيكليتها على نحو عملية «مخلب القفل» التي أطلقها الجيش التركي يوم الإثنين الماضي ضد «حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، ومن الواضح أنها ذهبت منذ مطلع الشهر الثاني لتلك الحرب باتجاه مغادرة حالة الصمت سابقة الذكر ومحاولة الخروج للضوء، حيث الفعل هنا ناجم بالدرجة الأولى عن قراءة مفادها أن الروس الآن قد دخلوا في طور تلاشي فاعليتهم في سورية، ولربما ذهبت تلك القراءة إلى حدود أبعد ابتنيت من خلالها تصورات تقول: إن مسار الحرب في أوكرانيا إذا ما ظل ذاهباً في سياقاته هذه فإن من المحتمل أن تشهد الساحة السورية انسحاباً روسياً يكون بشكل تدريجي لكن مفاعيله ستكون بادية منذ الآن لجهة ضعف التأثير الروسي في الحدث السوري.

لا نريد هنا الوقوف مطولاً عند «العقد الاجتماعي» سابق الذكر الذي أقل ما يقال فيه إنه كان انتقائياً بطريقة تجعله بعيداً عن معطيات الواقعين التاريخي والديموغرافي ما يفقده القدرة على الإقلاع في النسيج الذي يستهدفه ذينك الواقعين، لكن من المهم التوقف عند السياسات التي أفرزها إخراج ذلك العقد، فمن دون أدنى شك يقتضي الفعل من القائم به وضع سياسات داعمة له طالما أن القرار بالمجازفة قد اتخذ، لنشهد بدءاً من مطلع شهر نيسان الجاري تصعيداً تمثل في فرض ميليشيات «قسد» حصاراً على مؤسسات الدولة السورية في كل من مدينتي الحسكة والقامشلي، والتوقيت هنا يستحضر لقاء متزعم «قسد» مظلوم عبدي، مع قائد القيادة المركزية الأميركية «سنتكوم» الجنرال مايكل إريك كوريلا الذي جرى في الثاني من الشهر الجاري بشمال شرقي البلاد، ما يشير بوضوح إلى وجود ضغوط أميركية لنسف المعادلات القائمة التي أرستها توافقات «سوتشي» الروسية التركية التي أعقبت قيام أنقرة بعملية «نبع السلام» شهر تشرين الأول من عام 2019.

التصعيد الذي سلكته «قسد» أظهر أن قراءة قياداتها تقول: إن اليد الروسية باتت «مغلولة» في سورية، وهي على الرغم من أنها قبلت بالانخراط في الوساطة الروسية التي أفضت قبيل عدة أيام للتوصل إلى اتفاق مبدئي، لا يبدو أنه من النوع المحصن الذي يمكن من خلاله الرهان على إمكان استمراره لوقت طويل، إلا أن قبولها ذلك هو من النوع التكتيكي الذي يهدف إلى عدم ذهاب الروس نحو إعطاء ضوء أخضر لأنقرة للقيام بعمل عسكري في المناطق الواقعة بين بلدتي عامودا والدرباسية، ولربما وصولاً لمدينة القامشلي الحدوديتين مع تركيا، في الوقت الذي انحسرت فيه الثقة بالحليف الأميركي الذي لا تبين مراميه الراهنة في سورية على امتداد الملفات المتشعبة عن أزمتها، وغياب الثقة هنا هو الذي دفع إلى الانكفاء مؤقتا، حيث القراءة التي تتبناها «قسد»، والتي تبين من خلال الممارسة، تقول إن الظروف الاستثنائية التي تمر بها الأزمة السورية بفعل الحرب الأوكرانية، وبفعل الآفاق المسدودة لمسار «اللجنة الدستورية»، اللذين يفرضان دخول الأولى، أي الأزمة السورية، طور التهميش الدولي، بينما ستحظى الثانية، أي الأزمة الأوكرانية، بجل أضوائه، في هذه الظروف السانحة، وفق قراءة «قسد»، للقيام بتمرين يكون من النوع الداعم لمشروعها الانفصالي.

ما برز مؤخراً، وإن كان الفعل ليس بجديد لكنه ظهر بشكل أعمق ما يوحي بوجود توجه محوري، هو محاولة «قسد» لإظهار «القامشلي» كند لدمشق، ظهر ذلك في طبيعة «الشروط» التي وضعتها الأخيرة للتوصل إلى اتفاق ينهي الحصار المفروض على مؤسسات الدولة السورية في الحسكة والقامشلي، ولربما كانت تلك «الشروط» تتعدى في مضامينها مرامي «الإدارة الذاتية» لتصل إلى محاكاة تجربة إقليم كردستان في شمال العراق الذي كثيراً ما تلعب حكومته دوراً تناكفيا مع سياسات بغداد لإثبات استقلالية تتعدى «الحكم الذاتي» الذي تحظى به، والذي استولدته ظروف مختلفة جذرياً عن تلك التي تمر بها مناطق شرق الفرات السوري، والمؤكد هو أن تنامي تلك النزعة سوف يزيد من تعقيد تسوية المسألة مع «قسد» التي تتعاطى دمشق معها، حتى الآن، على أنها ليست معقدة، انطلاقاً من اعتبارات مفادها أن الخلاف هنا قائم مع جزء من النسيج الوطني السوري، بعكس ما هو الحال عليه في مناطق الشمال السوري الذي تسيطر عليه فصائل معارضة مرتهنة تماماً لإملاءات أنقرة، وإذا ما كان ذلك التعاطي مبرراً، في خلال المرحلة السابقة على الرغم من أن الحالة «القسدية» لا تبتعد كثيراً عن حالة الفصائل السابقة لجهة ارتهانها هي الأخرى لإملاءات خارجية، إلا أن فعل التعاطي آنف الذكر يصبح غير مبرر، الآن، بعيد الإعلان عن أن «مسودة الدستور» التي خرجت إلى العلن شهر شباط الماضي سوف تقر بعد اجتماعات تجريها «اللجنة المصغرة» المنبثقة عن «اللجنة الموسعة» المعلن عنها شهر تموز من العام الماضي، على امتداد شهر ونصف أو شهرين، صحيح أننا حكمنا أعلاه بأن «محركات المشروع» فاقدة لقدرتها على دفعه إلى الأمام، إلا أن توافر «عربات» للجر قد يعطي «العربة» حركة، وإن كانت اصطناعية، لكنها تربك المسير على الطريق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن