قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ»، ولكننا اليوم نعيش في زمن أشدّ وأقسى؛ إذ ليس فقط القابض على دينه بل القابض على وطنه، وعلى أخلاقه وكرامته وانتمائه، وحقوقه الأساسية والبدهية، كالقابض على الجمر، لأن الاستهداف طال كلّ مناحي حياتنا ووصل إلى عقر دار كلّ واحد منا كي يجتثّ منه انتماؤه وحتى محاولاته المستقبلية للنهوض ومقاومة الظلم والطغيان، وإلا كيف نفسّر أن يُترك المرابطون والمرابطات الفلسطينيون والفلسطينيات في ساحات المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحدهم يتعرّضون لكلّ أنواع القمع والقهر والإذلال دفاعاً عن شرف المسجد الأقصى وشرف كنيسة القيامة وشرف فلسطين وشرف العرب جميعاً مسلمين ومسيحيين، بينما تمرّ الأعياد وملايين العرب لا يخجلون أن يشاهدوا ومن ثم يقفلون شاشاتهم ويعودون إلى شؤونهم وكأنّ شيئاً لا يعنيهم ولا علاقة لهم بما يجري، بل وبعض سفرائهم يتناولون طعام الإفطار على مائدة المعتدي والمحتلّ العنصري والذي ينكّل بأهلهم على مسافة قريبة منهم؟!
هؤلاء غير مدركين أنهم سوف «يُؤكلون يوم أكل الثور الأبيض»، وأن ما يجري في ساحة الأقصى ما هو إلا أنموذج لما يستعدّ العدو للقيام به في كل ساحات جوامعهم وكنائسهم من نجد إلى يمن إلى مصر وتطوان وإلى كلّ مدينة وقرية عربية، حين صرخ الصهاينة في وجه الأبطال الفلسطينيين في الأقصى لم يصرخوا «الموت لفلسطين» بل صرخوا «الموت للعرب» لأن الهدف النهائي الذي يسعون له هو الموت للعرب جميعاً كي يقيموا إمبراطوريتهم الشرق أوسطية على أنقاض هذه الأمة التي يوجّهون لها كل أنواع الأسهم المدمّرة: الإرهابية والاقتصادية والإعلامية، بكل التفاصيل من دَبّ الفرقة بين أتباع الأديان والمذاهب، إلى تدمير الثقة بالأوطان والانتماء، إلى استهداف المناعة والتحصين الوطني واللذين يجب أن يكونا الدّرع الواقية التي لا ينالها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
تخيلوا لو كانت الاقتحامات الإرهابية الصهيونية بحقّ المسجد الأقصى وبحقّ كنيسة القيامة وبحق الفلسطينيين من قبل العصابات الصهيونية وعصابات جيشها المجرم تحدث في أيّ مكان في العالم ضد أناس يشبهون الأوكرانيين بلون بشرتهم وعيونهم، تخيلوا ما هي ردة الفعل العالمية والإعلامية على وجه الخصوص؟ كان ذلك يستدعي حكماً إيقاف الـ«بي بي سي» والـ«سي إن إن» كلّ برامجهم والتغطية أربعاً وعشرين ساعة لأحداث هي الأهمّ عالمياً، كان سيتوافد مئات الإعلاميين العرب وشبكات التلفزة العربية الذين غزوا كل مدن وأحياء أوكرانيا، كي يشكّلوا سنداً لمن يستهدفنا جميعاً ويستهدف حلفاء العرب وأصدقاءهم على مرّ التاريخ.
أقلّ ما يقال في هذا الصمت الغربي عن أكبر الجرائم التي ترتكبها الصهيونية بحقّ شعب أعزل يدافع عن وجوده وانتمائه وأرض آبائه وأجداده، أقل ما يقال فيه هو إنه يثبت بما لا يدع مجالاً للشك بعد اليوم أنه لا يوجد قانون دولي ولا حقوق إنسان ولا حرية إلا ما تمليه قوة السلاح؛ هذا هو العالم الذي شكّل الغرب عماده في العقود الثلاثة الماضية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
ولكن المعركة الحقيقية اليوم لا تدور في ساحات المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحسب، بل هي فعلاً على أرض كل ساحة ومنزل، وفي كل مجال من مجالات حياتنا لأنها معركة وجود ولم تعد أبداً معركة حدود. فالعدوّ اليوم يعمل على سلبنا ثقتنا بلغتنا وإيهامنا بأنها غير قادرة على مواكبة التطورات والاختراعات العلمية مع أنها اللغة الأقدر على الاشتقاق بين كلّ لغات الأرض، والعدو اليوم يحاول سلبنا إيماننا بقيمنا وتراثنا وحضارتنا كما يحاول سلبنا إيماننا بقدرتنا على البقاء وبناء مستقبلنا، ويتخذ من هفواتنا وثغراتنا ذريعة ليبرهن أننا لسنا كفوئين لخوض هذه المعركة ناهيك عن الانتصار بها، ناسين أو متناسين أنهم ومنذ الأزل عمدوا إلى تقويض عوامل القوة التي نمتلك وشنوا علينا كل أنواع الحروب، ظاهرة وباطنة، وخاصة حين تيقنوا أننا في مسار نهضة لشعبنا ولبلداننا؛ فهم يخططون ويطبخون كل أنواع السموم لعرقلة مسارنا وتعطيل عملية نهوضنا مستخدمين أحياناً أدوات داخلية تمّ التضليل بها واعتقدت أنها قادرة على استمالة الغرب وكسب رضاه من خلال العزف على أوتاره في أعمالها الأدبية أو الدرامية أو الإعلامية.
ولأطرح نقطة ذات صلة شديدة بما كتبت آنفاً: لقد انشغل الإعلام الغربي وعلى مدى سنوات باتهام الحكومة السورية بقصف المدنيين وقصف المدارس وإحراق المنشآت، وهي ادعاءات باطلة وجهوها للحكومة السورية بدلاً من الإرهابيين الذي أرسلوهم ليعيثوا في الأرض فساداً، وبدأت الدول الغربية ومنها السويد بإعطاء تأشيرات دخول وإقامات لهؤلاء المجرمين الذين ارتكبوا الجرائم الإرهابية مغدقين عليهم صفات المعارضة وغيرها من الصفات. واليوم وبعد حادثة مفتعلة بالسويد قام هؤلاء أنفسهم الذين غمروهم بعطفهم وحنانهم ضدّ السلطات السورية، قاموا بحرق المحلات والمؤسسات في مدن سويدية عديدة تماماً كما كانوا يفعلون في سورية ومازال أشقاؤهم في الإرهاب يفعلون الشيء ذاته برعاية أميركية وتركية في الشمال الشرقي والغربي من الجمهورية العربية السورية، والسؤال هو: هل يرى الغرب ما فعلت يداه، وهل يتّعظ ويبطل استهداف دولنا وكأننا نعيش على كوكب آخر لا علاقة له بكوكب الأرض الذي يعيشون هم عليه والذي يتأثر سلباً أو إيجاباً بكلّ ما يجري في كل ركن من أركانه؟
السؤال الأهم: هل سنقتنع نحن كلنا جميعاً بحجم ازدراء الغرب لنا ونظرته الدونية لنا بأننا أقلّ من مستوى البشر الذين يسكنون بلدانه؟ وهل ننتفض في وجه كل تقييماته وعناصر تفكيره ونركز على استنباط عوامل القوة من واقعنا والتعاون على التخلّص من كلّ العوامل التي تدبّ الوهن والضعف في مجتمعاتنا؟ وأن نعمل على إيصال الرسائل التي تحفّز الوعي وتعزّز الثقة، مع الدعوة طبعاً إلى معالجة الثغرات والهنات دون تصوير هذه الثغرات وكأنها هي الواقع الوحيد المسيطر وأن لا أمل مرتجى من العمل على التغيير وكأنه لا توجد نماذج أخرى وافرة وكثيرة تدفع للاعتزاز وتشد من أصر العزيمة والقوة.
إذا كان هناك جندي واحد شريف فهو الذي يمثلني وإذا كان هناك شخص واحد يقبض على انتمائه كالقابض على الجمر فهو الذي يمثلني، ولا يجوز أن تصبح السلبيات المادة الوحيدة لحديث الناس وللأعمال الدرامية التي تتذرع بذريعة الواقع؛ فالواقع هو الذي نصنعه نحن وهو الذي يرتقي إلى مستوى رؤيتنا له وتصميمنا الشديد على اجتراحه رغم كل الصعوبات والمعوقات والمخططات المموّلة لثنينا عن متابعة تحقيق أهدافنا.
فلا أسرة دولية ولا نظام دولياً ولا قانوناً دولي سوف يعمل على إحقاق الحقّ لنا أو للفلسطينيين أو اليمنيين أو الأفغانيين أو أيّ شعب مستضعف في الدنيا. فقد شددت منظمة «العفو الدولية» على سبيل المثال، ومنظمة «هيومن رايتس ووتش» في تقريرين منفصلين على أن الكيان الصهيوني يمارس الفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني، ومع ذلك لم يتناول أحد هذين التقريرين ولم يعرهما الإعلام الغربي ولا المسؤولون الغربيون طبعاً أيّ اعتبار رغم أن هاتين المنظمتين هما أهم منظمتين حقوقيتين دوليتين في العالم.
فلنصحُ جميعاً من محاولة استرضاء الآخر وخوض المهنة أو الحرفة أو العمل الدرامي أو الفكري أو المنتج الأدبي أو القانوني بطريقة تحاول إثبات تفهم القيم الغربية التي لا وجود لها إلا في الدعاية الإعلامية. رغم كل التحديات ورغم كل الاختلال في موازين القوى فطريق الشهداء والمقاومين في القدس وسورية والعراق واليمن وفي كل مكان هو الطريق الأسلم والأقصر والذي يقود إلى مستقبل يمتلك فيه الإنسان والوطن قراره ويتمتع بكرامته ومكانته بين البشر وبين الدول.
تحية لكلّ المرابطين الصامدين في فلسطين، في المسجد الأقصى وفي كنيسة القيامة، مسلمين ومسيحيين، متسلحين بإيمانهم في وجه أعتى طغاة الكون.
في جمعة القدس هم الجديرون بحمل لواء القدس والعزة والكرامة.