في ظاهرة حميدة قلّما نجدها طبعت مجموعة شعرية لشاعر بعد رحيله بجهد أسرته، وكم من شاعر أو أديب غادرنا فلم يحتفل من ورثه بما قدّمه، ولم يلتفتوا إلى ميراثه المنشور أو غير المنشور، وقد تحدثت مع عدد منهم، وأعرف آخرين تركوا إرثاً ومالاً، ولكن ما تركته القرائح لم يجد فائضاً ليقوموا بنشره! وحين رأيت مجموعة مراثي الروح للراحل الشاعر مروان الخاطر عاد إلى ذاكرتي بهدوئه ومشيته وشاعريته ودأبه، ووجدتني أتفرغ لقراءتها والاستمتاع بمجموعة لم تنشر من قبل.
المعرفة والشهادة
حرص المعتني بالديوان من أبنائه على أن يقدم صورة متكاملة للوالد الشاعر، فلم يشأ أن يقدم له هو، ولم يختر أن يضع له شهادات مجانية، بل اختار أن يقدم للديوان صديق الشاعر، والقريب منه في رحلة الإبداع والشعر، ومن يتحدث عن الشاعر أفضل من الشاعر إن كان صديقاً ووفياً وعارفاً؟ فكانت المقدمة بقلم صديقه الشاعر المهم علي كنعان أحد شعراء سورية الكبار، ليضاف مروان الخاطر إلى هذه الطبقة من الشعراء الذين كانوا شعراء مرحلة في نهاية الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وقليل من القرّاء يعرفون الراحل مروان الخاطر، ويضعونه ضمن شعراء هذه المرحلة المؤثرين، لأنه شأنه شأن المبدعين التفتوا إلى الحياة والعمل اليومي، وكان إبداعهم على أهميته بعيداً عن دائرة الضوء وبؤرة الاهتمام، وفي تقديمه يجلو علي كنعان صورة الشاعر وخصوصيته وأهميته، ومما قاله عنه مستذكراً «الصديق شقيق الروح، يطيب لي أن أردد هذه العبارة مع وجيب القلب ورفة الخاطر، والشاعر مروان الخاطر واحد من ثلاثة أعزاء، لهم مكانة خاصة في حياتي بفعل التواصل الحميم بيننا بأبعاده الروحية والفكرية…» وعن هذه المراثي يقول كنعان: «رقة شاعريته وبلاغة البساطة في لغته جعلتاه محبوباً أثيراً في كل مجلس وفي كل لقاء. ومروان يعبر في بوحه الشعري الحزين هذا عن غربة روحية خانقة، وهو يعاني من واقع عربي محكوم بالتشظي والتناحر والخواء» فإضافة إلى مراثي الروح في روحه وأسرته، كانت مراثي الروح على الأمة وواقعها، والشاعر يشير إلى أن بعض المراثي كتبت في العراق أثناء الحصار 1995، إضافة إلى بوحه الباكي على ابنته إلهام التي اختطفتها يد المنون، وكذلك رثاء الذات.
الهم الذاتي والروحاني
يشير كنعان في مقدمته إلى معاناة مروان الخاطر مع مرض ابنته إلهام ووفاتها في مشفى المواساة، ورسم صورة مؤثرة لفنجان قهوة وجريدة تحملها إلهام إلى والدها، وجاء المرض والوفاة ليختطفا هذا الحلم الجميل منه، وخلّفا لديه جرحاً غائراً، وكل من عرف مروان رآه في طريقه ساهماً حزيناً وكأنه ترك للدنيا مباهجها في مرض ابنته:
إلهام يا بنتي التي غيابها
فوق احتمال الروح للغياب
لا تحزني على رحيل دونما إياب
تشبثي باللحد، فالتراب
أرحم من عالمنا المهين
إياك والحنين
لهذه الحياة
ما متّ أنت
نحن في حياتنا الموات
في أحسن الحالات
ويختم مروان قصيدته في ابنته، والتي تنتظم في خانة رثاء البنين والبنات، وفي هذا الصنف من الشعر نجد الشاعر، أي شاعر، غير قادر على تقديم صورة مشتهاة، فالحادثة فاجعة، وهي جزء منه، لذلك يأتي شعره ملوناً بالمنطق.
جاءت إليَّ في يد جريده
وقهوة الصباح
في يدها الأخرى
تقول يا أبي
أهذه قصيدة جديدة؟
أجيبها أنت القصيدة
وأنت الروح في القصيدة
تضحك لي، وتتركني
أتم ما بدأت لكن
سافرت إلهام ما عادت
ولم تكتمل القصيدة
وللذات والروح رثاء
ذات صباح من عام 2021 غادرنا الشاعر مروان الخاطر وبهدوء، احتفت به «الوطن»، لكن كورونا حال دون أن يكون الوداع لائقاً بمن منح إبداعه للشعر الأصيل، وأعطى جهده للفن والثقافة والإعلام، وكأني بمروان يدوّن رثاءه لنفسه ومنذ أمدٍ بعيد إذ يقول:
وها غاصت
سفينة حلمك الموءود
أو ذاب الطلاء
فظهرت منكسر الملامح
لست من زمن مضى
لا لست من زمن يعاش
له ابتداء وانتهاء
وفي فسحة من الشعر والحياة يناجي قلبه، وكأنه بعد رثاء ابنته وأصحابه يرجو المغادرة:
أيها القابع في صندوق صدري
أنت تدري
أنه قد عيل صبري
والكلام
صار فناً
من فنون الصمت
مجنوناً وأحمق
أيها القابع في صندوق صدري
لم لا تغفو قليلاً
طالما الناس نيام؟
وللأوطان والقضايا رثاء
وها هو مروان الخاطر يقدم بكائيات لحصار بغداد الضحية
لا بأس إذا سقطت بغداد
أو تسقط عاصمة أخرى
ثمناً للنوم على سرر الأعداء
لا بأس إذا طويت أمجاد
في حاضرة أو في صحراء
وأعدنا طبع مصاحفنا
بزيادة آية حب
لبني صهيون
شطبنا كل كلام الحرب
يبقى الأبقى
والأجمل والأنقى
أن الأمراء
ظلوا في أحسن عافية
وظللنا نهتف، عاش، يعيش، ولا..
لا بأس إذا سقطت مدن
وغدونا دون بلاد
لا بأس إذا سقطت بغداد
وعواصم أخرى
يكفينا أنا بحمى الأمراء المحميين
تتقرّب من أمريكا كالمعتاد
كي يبقى الحاكم فوق..
صدور المحكومين
على قِدَم هذه النصوص، فإننا نجدها حارة طازجة لما فيها من استشراف مضى عليه عقدان من زمن، إنه الشعر، لكن الشعر المرهق غاية الإرهاق، صوت شاعره يتهدج بتثاقل كسجين ربطت بقدميه الأوزان لتمنعه من التقدم خطوة.
ورحلة الشعر
عرف مروان الخاطر إعلامياً لأنه التزم عمله الوظيفي طويلاً، وبقي الشعر عشقه وهاجسه فأصدر دواوين عديدة جمعت في الأعمال الشعرية، إضافة إلى مختارات.
– مواليد البوكمال 1943 عمل معلماً في سورية وخارجها.
– عمل في إذاعة دمشق.
– كان عضواً في اتحاد الكتاب العرب.
– له: الناي الجريح- أصوات في سمع الزمن المقهور- نشيد الغربة- أخاف عليك فابتعدي- أغاني الفرات.
ويأتي هذا الديوان (مراثي الروح) تكريماً له بعد رحيله وهو الذي كان الشعر حلماً له، لكن الحياة طوّحته مشرقاً ومغرباً، وأرهقته بتكاليفها، فترك توقيعاته الشعرية وغادر غير آبه بما قدّمه له الشعر.. شكراً لمن اعتنى به بعد الرحيل فأكرمه وكرمه، وحقق له حلم البقاء بالشعر الذي كان يتأبطه كل وقت وحين.